كالقشّة في سيل الزرقاء

كدتُ أنْ أموت ستا وثلاثين مرّة، لكنّي كنتُ أنجو دائماً لحكمة قد يفسدها التفسير. انفصلَ الحبل السريُّ عن رقبتي، بإرادة إلهيّة، واجتزتُ الحصبة الألمانية بأدعية وابتهالات دامعة، وخرجتُ من انفجار الزائدة الدودية، كما تخرج الدودة من القشّ، لم أمت تحت عجلات سيارة نصف نقل في عودتها المغمضة إلى الخلف، وأحدثتْ رصاصة طائشة في الحرب الوحيدة التي شاهدتها من على الرصيف، ثقباً في الجدار الذي كان مرسوماً عليه رأس لعينين معصوبتين.اضافة اعلان
لا يمكنني أنْ أحصي المرّات التي نجوتُ فيها من حوادث السير على الطريق السريع بين عمّان والزرقاء، ولا أنكر أبداً أنّ دعاء جَدتي المؤثر أفادني من السقوط القاتل في الثلجة الكبرى في العام الثاني من التسعينيات، أما مناعتي الذاتية فهي التي حالت دون أن أصاب بالتسمم حين أكلتُ “خبز الحمام” مدهوناً بماء النضح، وهذه الحياة المديدة التي أعيشها الآن مدينَة لصخرة منعت “سيل الزرقاء” أن يجرفني مثل قشّة، أو علبة “سيرف” فارغة!
لم يقتلني الخطأ الطبيُّ في المستشفى الحكوميّ، بقيَ المشرط في بطني لأسبوعين، وحافظتُ عليه كـ”عُهدة” حتى استعادته الحكومة في عملية مدفوعة الأجر ملوثاً بدمي، وكان يمكن أن تتأخّر سيارة الإسعاف في شارع “الجاردنز” لنصف ساعة أخرى، وأموتَ بأعراض “جنون البقر”، لكنّي تحاملتُ، واستحملتُ العدوى غير المباشرة من “كريب الطيور” و”الخنازير”، ولم أحزن كثيراً على الأميرة ديانا، فنجوتُ أيضاً من أسباب السكتة القلبيّة في ستاد عمّان في مباراة محليّة حامية، تحكيمها خارجي ينقصه الحياد.
نجوتُ لحكمة قد يفسدها التفسير، وانتقلتُ مع المنتقلين في عمليّة التسليم السلسة من قرن إلى قرن، وفي العام ألفين تجنّبتُ كلّ الطرق التي كادت أنْ تذهب بي إلى “غوانتانامو”، لم تخنقني قنبلة الغاز في “الرابية” عند السفارة التي لا تُرى يوم الجمعة، وصار العراقُ بلداً محتلاً ولم يقتلني الحزن البغداديُّ، وخسر “ياسر عرفات” آخر معاركه المباشرة أمام “شارون”، وبقيتُ حياً، ومشيتُ في جنازات كثيرة في بيروت، وأخطأتني رصاصة في غزة أطلقتْ بـ”حماس” غريبٍ نحو رأسي.
عمّ الموتُ كدخان المصانع، ومشى طائعاً كالقشّ في السيل، في سورية منْ لم يمتْ في الزمن الإيراني، يموتُ في الوقت الروسيِّ، وفي ليبيا الأحياء موتى حتى يمرَّ النهار بسلام ويتعرّف إلى ملامحهم النهار التالي، وفي اليمن أنتَ يا جنوبيُّ، ويا شماليُّ ميِّتٌ إلى أنْ يثبتَ العكس، وفي مصر الموت مواسم، وبالجُملة الرخيصة كالثياب الصيفية في الشتاء. يموتُ العرب في زورق مثقوب في البحر المتوسط، وبين شوطي مباراة وديّة في فرنسا، بالسرطان يموتون، وبالسكتات الشائعة، وبالخلاف الناريِّ على أولولية المرور؛ وما زلتُ حياً، فهل أفرح؟!
نجوتُ من الموت ستا وثلاثين مرة، ومنذ ست وثلاثين سنة، والموت يخطئني أو يتجنّبني، ومصادفات غريبة جعلتني أخرج من البيت قبل قدومه، أو أتأخر عن العودة فيترك لي ورقة مهذّبة أسفل الباب: “حضرتُ ولم أجدك”. أحاولُ تفسير الحكمة التي من أجلها ما زلتُ حياً، رغم أنّ الموت كان متاحاً لي أكثر من مرة في طوارئ مستشفى البشير، وعلى الطريق السريع بين عمّان والزرقاء، كان من السهل أنْ يأخذَني السيلُ، تحت منسوب غير قانوني من المُخلّفات، لكنِّي نجوتُ بخطأ طبيٍّ!