"إزاي تشوف الموسيقى"..!

لا يستطيع أحدٌ أن يزعم أنه لا علاقة له بالموسيقى. من أغاني الحب، إلى نواح المثكولين، إلى أناشيد الحصادين في زمن السلم والجنود في زمن الحرب، إلى تلاوات وترانيم وأدعية المتدينين إلى ابتهالات العشاق الصوفيين، ثمة الموسيقى في كل ذلك. لكنَّ هذه العلاقة الإنسانية الحتمية مع الموسيقى يمكن أن تتراوح من التماس العفوي إلى التلاقي الواعي. وهناك فارق في هذا الجانب بين الناس في الدول التي تُدرِّس التربية الموسيقية ضمن مناهجها المدرسية، وبين الذين يعيشون في دول تتعامل مع الموسيقى وكأنها شيء يستوجب الخجل، أو تُصوِّر لنفسها أن الموسيقى شيء يعتدي على العقائد ويُتلف الأخلاق.اضافة اعلان
مع ذلك، لا بُدّ أن تعرض أي أمَّةٍ تراثها الموسيقي ضمن عناصر الهوية –حتى لو جاهرت بعدائها للموسيقى. وعندما لا يكون للدول الناشئة تراث موسيقي، فإنها تبتكر لنفسها هذا التراث وتُصنِّعه، وتنفق عليه الجهد والمال. وحتى "داعش"، وهو سليل أيديولوجية معادية للموسيقى، استخدم الأناشيد في دعايته للتجنيد والتحريض ورفع الروح القتالية. وكان نشيد "صليل الصوارم" سيئ الذكر وأشباهه علامة للمجموعة الإرهابية. وقد اشتغل مخطِّطو التنظيم على الجانب الموسيقي الدعائي بعناية في مرحلة التحضير لصعوده و"دولته" وأثناء تسيُّده، كجزء مهم من استراتيجيته.
لا فرقَ أساسياً بين التعبير الموسيقي بآلة موسيقية أو بالحنجرة البشرية؛ إنها في الحالتين نفس الأنغام والمقامات التي يُميزها المثقفون موسيقياً. وإذا أراد أحد أن يكون مرتلاً في كنيسة أو مقرئاً للقرآن أو مؤذناً في جامع، أو مؤدياً في الموالد أو حلقات الذكر، فإنه يجب أن يعرف المقامات الموسيقية التي هي أساس صنعته. وهذا طبيعي لأنّ للموسيقى تلك الصلة بالتجليات الروحيّة والأشواق الإنسانية من أي نوع. وهي في الأساس جزء من التكوين الجمالي والمتسامي للنفس وليس العكس، كما تشيع ثقافات الجهل.
بينما تهمل معظم دولنا المتناقضة مع نفسها تعليم الثقافة الموسيقية في مدارسها، يتصدى بعض الموسيقيين المثقفين لمهمة تعريف الناس بالموسيقى عبر ما تُتاح لهم من مساحات في وسائل الإعلام. ولعل من أبرز التجارب في هذا المجال ما قدمه الموسيقي-المهندس والسياسي السوري سعد الله آغا القلعة. وفي برامجه المتعددة التي قدمها، كان يعمد إلى تحليل الأنغام والمفردات والأساليب في الأغنيات المفردة وفي مجمل خبرة الفنانين الكبار. ولا شك في أن مشاهدة برامجه كانت تضيف كثيراً إلى معرفة المشاهد في نظرية الموسيقى وفهمها.
القطب الموسيقي العربي الآخر الذي اشتغل في التثقيف الإعلامي الموسيقي البارع للجمهور، كان الموسيقار العبقري المصري الراحل عمار الشريعي. وقد امتاز هذا الفنان الكفيف – وصاحب البصيرة الحادة- في مؤلفاته الموسيقية بالحساسية البالغة والمعرفة الموسعة والقدرة على مزج صوت الأرض والتيمات الشعبية بالموسيقى السيمفونية. وفي مجال التثقيف، قدم برنامجين مميزين، أحدهما إذاعي باسم "غواص في بحر النغم"، والآخر تلفزيوني بعنوان "سهرة شريعي.. إزاي تشوف الموسيقى".
في البرنامج الأول، تناول الشريعي بالتحليل أغنيات مختارة لكبار الفنانين المصريين، مثل أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم وأشباههم. وكان يشرح معاني الكلمات ويبين العلاقة بينها وبين الاختيارات اللحنية من المقامات، وكيف يتغير المقام الموسيقي عندما يتغير المعني ليصبح حزيناً، أو عاطفياً أو مرحاً أو صوفياً، وهكذا. كما حلل طريقة المغني في الأداء وأين برع وكيف عبّر. ولدى الاستماع إلى التحليل، يتزود المستمع بمعرفة جديدة بالموسيقى وبكيفية تذوقها.
وفي "سهرة شريعي"، يعبر العنوان الفرعي "إزاي تشوف الموسيقى" عن الفارق بين "الاستماع" إلى الموسيقى و"رؤية" الموسيقى. ويلمح العنوان إلى الشريعي نفسه الذي يسمع الموسيقى، لكنه "يراها" أيضاً برغم كونه كفيفاً. وفي سهراته، يستضيف الشريعي مطربين وملحنين وعازفين ومؤدين وشيوخاً وممثلين استعراضيين، ويستكشف معهم أعمالهم من جوانب لا يعرفها الجمهور. وفي بعض الأحيان، يشترك مع قائد الفرقة الموسيقية في تحليل لحن شهير ويُعرِّفان بإيقاعاته ومقاماته والآلات التي تعزفه ولماذا تم اختيارها لأداء هذه النغمة أو تلك.
ترك الشريعي والآغا -وربما أسماء أخرى- تراثاً من القراءات العميقة في النظرية والثقافة الموسيقيتين. ومع وجود الوسائل التي تتيح استعادة الفيديوهات السمعية والبصرية، يكون الجلوس مع هؤلاء الموسيقيين في ساعة صفاء، مهرباً ممتعاً إلى عوالِم الموسيقى الملونة، وإضاءة للأركان الأجمل في النفس.