أولويات الإصلاح

نذكر جيداً كيف تم باسم الديمقراطية استخدام الأسلحة الثقيلة في مهرجانات انتخابية تحت مسمى "العرس الديمقراطي". وباسم ديمقراطية التمثيل، تجذرت أيضا مفاهيم عدة مثل المحاصصة وريعية العلاقات والانتماء للعصبية بعيدا عن "أولنة" الصالح العام.اضافة اعلان
الإصلاح السياسي والديمقراطية لن يقدما للمجتمعات إلا مزيداً من التشوهات السلوكية ومسخ الممارسة وتهافت التطبيق إذا لم تكن البوصلة السياسية ونبضها وماكنتها عند الأفراد والمجتمعات والقيادات صائبة ومحركة من قبل منظومة قيمية وثوابت راسخة، وإذا لم يكن سلوك المواطنة والمسؤولية المجتمعية حاضرين وبزخم ليقودا المجتمع بثقة صوب أولوية الصالح العام.
لن يفضي الإصلاح إلى نتائج جوهرية إذا لم نتأمله ونتخيله ونخطط له ونهندسه بشمولية. الإصلاح الناجح هو إصلاح شمولي وتراكمي وتتابعي مركب ولا يحتمل التقطيع أو التجزئة أو "التعليب" أو الخصخصة. فهناك فرق شاسع في نتاجات ومخرجات الرؤية التي تقوم على اجتزاء مفهوم الإصلاح في السياق السياسي والرؤية التي ترى بأن الإصلاح – بنيوياً– هو إصلاح تراكمي وتتابعي يبدأ بالتربية والتعليم ومأسسة القيم والثوابت الحقوقية وحماية الحريات ومثُلها وينتهي بالسلوك وأداء ونتاجات الفرد والمؤسسات والقطاعات بكل أشكالها.
الإصلاح أولا وأخيرا هو إصلاح البيئة الحاضنة للشعوب ومنظوماتها القيمية والمسلكية. لن يقوى أي برلمان أو أي ديمقراطية من محاكاة طموحات الشعب واحتياجاته المدنية إذا غاب عن المشهد العام الآتي:
أولاً: بنية ثقافية وفكرية وتربوية وتعليمية حاضرة بقوة وفاعلة لتنتج مواطناً مفكراً ومتأملاً ناقداً ومنتجاً. فإذا صلح الإنسان في أي موقع كان، صلح معه كل شيء: صلح السلوك والممارسة، وصلحت النوايا والأفئدة وصلح معها المكان والزمان.
ثانياً: بنية اقتصادية تتيح المساواة في الوصول الملائم إلى الموارد والفرص والخدمات الاجتماعية والأساسية لتُنتج عيشاً كريماً وألفة مجتمعية وتكافلاً ومودة. المنظومة التي تمكّن أفرادها من العيش الكريم وتستثمر في صونهم من جيوب الفقر والحاجة والضيم تستحوذ تلقائياً على احترام أفرادها ومحبتهم وانتمائهم.
ثالثاً: بنية سياسية تُوطِّن وتُمتِّن عدالة انتاج وصنع القرار وحماية الحقوق والحريات وأولوية الصالح العام لينجم عنها مواطنة رشيدة تمارس الحق والحرية وحراسة القيم والانخراط بممارستها.
رابعاً: بنية قيم انسانية ومبادئ جوهرية -خاصة إذا مورست بثبات من قبل القيادات العليا التي تأخذ على عاتقها حماية هذه القيم من الانتهاكات فتقي الضمير الفردي والجمعي وأداءهما وتحول دون الوقوع في أدوار الحظوة والتنمر والتوحش.
خامساً: بنية تشريعية تهندس بحكمة مطلقة وتوازن تشريعي مواقع الأفراد من الحقوق والمسؤوليات لتنتج مخزوناً ظاهراً وباطناً من مفاهيم الحق والعدالة وتوازن الأحمال القانونية في سياق سيادة القانون.
سادساً: بنية الاستدامة في تخطيط المساحات والأمكنة أينما وجدت بحيث تحسن الطابع المرئي وتُوطِّن مفاهيم الأمان والسعادة والرضى مع المكان عند الأفراد للتفاعل مع الأماكن بحيوية وأكثر تماسكا وارتباطا.
عندما يغيب الإصلاح كمنظومة متكاملة سيأتي الفساد من كل حدب وصوب ويستشري.
فالفساد بكل أشكاله هو عبارة عن تشوهات سلوكية وانحراف عن قيم ومُثُل وثوابت أخلاقية، وأساسها غياب الإصلاح الجوهري والبنيوي المتكامل. الفساد ليس فقط فساداً مالياً ومادياً وسياسياً. الفساد له أشكال وأنواع وسياسات وسوسيولوجيا واقتصاديات لا حصر لها.
عندما لا يُؤتمن الفرد على أداء مسؤولياته بصدق وأمانة فهذا فساد في الأداء الوظيفي. صمت الافراد داخل المؤسسات عن الترهل والفساد الإداري هو أيضاً شكل من أشكال الفساد المؤسسي. استغلال المنصب للمنافع الشخصية ومنافع الأقارب والأصدقاء هو فساد إداري. الثرثرة الزائدة في الاجتماعات وإضاعة الوقت والجهد والفرص في مهاترات وملاسنات وأجندات شخصية هو فساد الأداء. قبول الهيمنة والبلطجة المجتمعية والتوحش وجرائم "العار" وليس كما يسميه البعض عن جهل أو خبث "بجرائم الشرف" هو فساد السياسات الأسرية وعلاقاتها وفساد الضمير المجتمعي. عندما لا يهب المجتمع بأفراده وجماعاته لمناهضة كل أشكال الفساد ويتحدثون فقط عن الفساد السياسي والمالي فهذا أيضا نوع من أنواع الفساد المركّب. الواسطة والمحسوبية فساد وخرق التعليمات والقوانين والقيم فساد. زراعة الخضار والفواكه المشبعة بالمبيدات وبيعها فساد.
الفساد لا يتجزّأ، وهو مع الأسف مجزوء في مجتمعنا. لن نُصلح أي شيء وننصلح إذا لم ننظر للمشهد الإصلاحي بشمولية ونتمعن بكل تفاصيله.
لا يجب أن نهرول وراء طنطنة المفاهيم واستقوائها على أولوياتنا في جوهر الإصلاح. وقبل أن نسّن القوانين لمساءلة الفساد وملاحقته، وربّما بموازاة ذلك، علينا تعزيز "حاكمية المواطنة" وتمكين المجتمع بمؤسسات ودوائر سوية وقيادات واعدة وإدارات متفانية بالعمل لنتمكن من بناء أوطان آمنة لا تحتاج الى ماكنات ضخمة للردع والمساءلة والعقاب والملاحقة، لأن المراقب الأول والأخير والمؤتمن على الصالح العام هو الفرد الذي سيراقب سلوكه هو أولاً وسلوك الآخرين ثانياً لدرء أي خلل في القيم أو السلوك أو الأداء.