الاحتلال بين المعضلة الأخلاقية والانتهاكات الممنهجة لحقوق الإنسان


احتلال فلسطين هو انقلابٌ على الإرث العالمي لمنظومة حقوق الإنسان، وانتهاك ممنهج لفلسفة ومبادئ النظام الحقوقي العالمي، التي ناضلت البشرية مجتمعة من أجل بلوغها بعد ويلات حروب ما تزال آثارها ماثلة حتى الآن. هو فعلٌ يمثلُ خرقا واضحا للمبادئ الحقوقية العالمية وللمعايير الدولية التي وُضعت لتضمن حق الشعوب في كرامة العيش وتقرير مصيرها على أرضها.

اضافة اعلان


فلسطين وضعت العالم اليوم بأسره أمام أصدق وأدق اختبار؛ فقضية فلسطين تمثل من منظور حقوقي، اختبارا لصدقية "الحق في تقرير المصير" الذي يُعتبر أحد مقاصد الأمم المتحدة بموجب المادة الأولى من ميثاقها، وجدية الغاية الفعلية لتأسيس المحكمة الجنائية الدولية بموجب ميثاق روما الأساسي لسنة 1998 "ضمان الاحترام الدائم لتحقيق العدالة الدولية". 


إن الاعتراف الدولي بجوهر المعضلة القانونية والأخلاقية لاحتلال فلسطين ملزم لرد اعتبار هيبة المنظومة الحقوقية الدولية التي أتت بدورها لتحمي قيم سامية مثل السلم والأمن الدوليين والعدالة والانصاف وإحقاق الحق بغية استعادة الثقة في المجتمع الدولي التي أظهرت مواقفه من القضية الفلسطينية تضاربا وتناقضا مع المواثيق الدولية لحقوق الانسان. 


 لماذا يُعد احتلال فلسطين انقلابا على الإرث العالمي لمنظومة حقوق الإنسان؟
التأصيل الموضوعي الذي يفسرُ الفجوة بين جميع أشكال الاحتلال من جهة، والأخلاقيات والأدبيات الحقوقية من جهة أخرى، ينبع من سياقات لا تقتصر فقط على المبادئ الورادة في القانون الدولي وشروحاته، بل أيضا من الواقع الذي يخلقه العمل الاحتلالي على مستوى البعد الإنساني والتاريخي والجغرافي. ويمكن الإشارة إليه من خلال النقاط التالية:


1 - الاحتلال، من منظور القانون الدولي والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، يُعتبر جريمة غير أخلاقية في جوهره، حيث يثير انتهاكات بنيوية في بلوغ الشعوب التمتع التام بحرياتها. وهذا يمثل انتهاكا مباشرا لمبدأ حقوق الشعوب في سيادتها على أراضيها، متعارضا بذلك مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان التي تأتي في مقدمة الشرعة الدولية لحقوق الإنسان. 


2 - تُشير اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، التي تُعتبر أساسا في القانون الدولي الإنساني وتضمن حق حماية المدنيين في الأراضي المحتلة، إلى أن الانتهاكات لهذه الأحكام، سواء بالتجاوز عنها أو بتجاهلها، لا تمثل فقط انتهاكا للمعايير القانونية والأخلاقية الأساسية، بل تُسهم في تعزيز وتشجيع ثقافة الاستبداد والاستعمار والفصل العنصري والجرائم ضد الإنسانية. ولهذا أحيطت بسياج أممي لمجابهتها نظرا لخطورتها. 


3 - الاحتلال يُعيق أسس حقوق الإنسان في نمط حياته اليومية وعيشه من خلال تقييد الحريات الأساسية مثل حرية التنقل والتعبير وحتى الحق في محاكمة عادلة عبر الاعتقال الإداري التعسفي. ونتيجة لذلك، يجد الأفراد أن قدرتهم على العيش تتعرض للاستلاب وتتضاءل معها فرص حق الحياة.  


4 - عندما يستولي المحتل بالقوة على منزل ويستبيح أرض غيره ويعتدي على الأعيان الثقافية والأماكن الدينية، والحديث هنا عن الاحتلال المكاني والعبث الجغرافي، فإن ذلك يُعتبر جريمة لأنه يشكل انتهاكا لحقوق الملكية وانتهاكا للحقوق المدنية والإنسانية للفرد، خصوصا عندما يرتبط الأمر باستراتيجية الاحتلال التدريجي عبر التهجير القسري والنفي في محاولة لتفريغ الأرض وإحلال الاستيطان.


5 - الاحتلال يُمثل شكلا من أشكال سياسات الاستعمار الجغرافي  والعدوان على الآخرين، وهو انتهاك مباشر لميثاق الأمم المتحدة. إذ يسعى الميثاق أولا إلى منع استخدام القوة وأدواتها بطريقة تتنافى مع أهداف الأمم المتحدة، وثانيا منع ضم الأراضي من خلال الاحتلال وانتهاكات في حقوق الملكية، والشاهد في ذلك السياسة التوسعية الاستيطانية لضم أراضي الضفة الغربية لسيادة الكيان المحتل.

وهذا يتعارض جوهريا مع قرار مجلس الأمن 242 الذي نص بوضوح على أن أراضي الضفة الغربية هي أراضٍ فلسطينية وضرورة احترام سيادة الدول على أراضيها.

 

6 - الاحتلال يحجب رفاهية العيش الكريم ويحولها إلى واقع مأساوي مليء بالرعب والصدمات. حيث يُحرم الاحتلال الأفراد من حرياتهم ويجعلهم عرضة للتعذيب، وبصورة مأساوية، يستنزف أرواحا بريئة تحت سيطرته الوحشية. ويمكن للاحتلال أن يستمر في سياسته من خلال تنفيذ سياسات الإبادة والتطهير العرقي والديموغرافي، وفرض أسطورة "تفوقه" العرقي لتبرير أهدافه الاستبدادية والاستعمارية. وتعد الأحداث التاريخية مثل النكبة في عام 1948 والنكسة في عام 1967 أمثلة حية على هذه الأساليب، والتي تُحاكي أشكالا متعددة من الكولونيالية في التاريخ البشري.


 7 - من ضمن اقتصاديات الاحتلال وتداعياته هو أنه يسيطر على الموارد الرئيسية والبنية التحتية للأراضي المحتلة، مما يحرم السكان الأصليين من فرصهم الطبيعية للنمو والتطور وحتى استغلال الفرص المتاحة.


8 - بتوازٍ مع القيود الاقتصادية، تنتهج سيكولوجيات الاحتلال استراتيجيات خبيثة، مثل "قتل الذاكرة" في عيون المجتمع الدولي حيال تاريخ وثقافة الشعب الفلسطيني. تهدف هذه الاستراتيجيات إلى مسح الذاكرة الثقافية والتاريخية والجماعية الفلسطينية من السرديات العالمية بشكل متعمد، وهذا التكتيك شائع.

 

تشمل هذه الأساليب تحريف السرديات الثقافية، وتزوير التاريخ، واختطاف الذاكرة الفلسطينية من خلال التلاعب بلغة ووعي الجماهير الدولية. تمثل هذه الأساليب محوا رمزيا للثقافة الأصلية في فلسطين وكلمة فلسطين في القواميس الدولية وأغلب الخوارزميات، حيث تسعى لإعادة إنتاج السرديات التي تنكر وجود الفلسطينيين. ومع ذلك، تقف أشكال المقاومة الفلسطينية التي تسعى لحماية هذا التراث والإرث الفلسطيني كحواجز صلبة ضد هجمات تدمير تراث الشعوب.


9 - تحت تأثير النزعة الفطرية لاستعادة الشعوب حقهم في الدفاع عن استلاب أراضيهم وحقهم في كرامة العيش، تولدُ حركات المقاومة عندما يُدرك الشعب بشكل قاطع أن الاحتلال هو نهج جرمي وغير شرعي. من سيادة قانونية هذا الحق ينبعث الإيمان القوي في حق مقاومة الشعوب للدفاع عن أراضيها وموروثها وهويتها وكرامتها الانسانية.


10- يعتبر قانون القومية اليهودية الذي أقرته سلطات الاحتلال قبل سنوات باعتباره قانونا أساسيا كأبرز مثال للاستقواء على القرارات الأممية، وإهدار المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان حيث قلب حق العودة للأراضي الفلسطينية لليهود بدلا من الفلسطينيين، وعمل على تقنين ثيوقراطية الدولة القائمة على الفصل العنصري، وقفز على مفهوم سيادة الدول "تساعد الدولة اليهود الذين يعانون المحن  أو الأسر في العالم".


سيادة القانون الدولي أحد الحلول؟
 جاء في ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان "غاية ما يرنو إليه عامة البشر انبثاق عالم يتمتع فيه الفرد بحرية القول والعقيدة ويتحرر من الفزع والفاقة".


كمطلب وجوديٍ وموقف سياسي وكبعد استراتيجي، يجب على المجتمع الدولي أن يتحمل مسؤولياته بكل حزم ودون تردد في الدفاع عن ثبات المنظومة الحقوقية العالمية وسيادة القانون الدولي الحقوقي (القانون الدولي لحقوق الإنسان، والقانون الدولي الإنساني) . 


الميثاق الأممي (ميثاق الأمم المتحدة) وقرارات الجمعية العامة، وقرارات مجلس الأمن الدولي، ومحكمة العدل الدولية (ICJ)، والمحكمة الجنائية الدولية (ICC)، واتفاقيات جنيف والبروتوكولات الإضافية، والقانون الدولي العرفي، وغيرها، يجب أن تلعب دورها بمصداقية في فرض سيادة القانون الدولي لوقف انتهاكات وجرائم قوى الاحتلال على الشعب الفلسطيني وأراضيه.


جرائم فعل الاحتلال تكمن في قدرته على تدمير ليس فقط المباني، ولكن أيضا النظام الحقوقي والقيمي الذي يحمي أمننا الإنساني وضميرنا الحي، مخلفا جروحا في الشعوب قد لا تلتئم أبدا.  


كما تسعى الدول والشعوب إلى تحقيق الأمن والأمان في بلادهم ومنازلهم، واستثمار الفرص داخل أراضيهم لتحسين جودة حياتهم، يتطلع الفلسطينيون إلى أن يحققوا هذا الحق نفسه. أليس هذا حقا مشروعا؟

 

للمزيد من مقالات الكاتبة انقر هنا