عدم الإتقان "الخلّاق"..!

الذين لديهم أجهزة كهربائية قديمة من الماركات الأميركية والأوروبية سيقولون لك إن الثلاجة أو الغسالة تخدم طول العمر. وحتى إذا تعطلت، فإن بالوسع صيانتها لأن أساسها لا يهترئ. لكن هذه الملاحظات غالباً ما يتبعها التعليق بأن الشركات التي أنتجت تلك الأجهزة طويلة العُمر تداركت خطأها فشرعت في تقليل الجودة –ولسبب وجيه، كما يقول المفسِّرون: إنك إذا اشتريت قطعة تخدُم عقوداً، فكيف تبيع الشركات إنتاجها الجديد؟ كما أن إتقان الصنعة قد يخرب بيوتا: سوف يقلُّ عدد عمال المصانع، وفنيّي الصيانة، وباعة الأجهزة، والذين ينقلونها والكثيرين في سلسلة التوريد.اضافة اعلان
يبدو أن بعض الأمم تطبق هذه الفلسفة في إدارة شؤونها أكثر من استراتيجية فيها، لا يكاد شيءٌ يُصنع بإتقان، لا الأشياء ولا الإنسان. وربما تعتقد هذه الأمم بأن الصنعة المتقنة، والأخلاق السامية التي تستلزم بدورها الإتقان وعدم الغش وانضباط السلوك، سوف تلغي الكثير من الوظائف وتبطئ حقاً حركة العمل والسوق.
مثلاً، لو أتقنوا تخطيط الطرق وتعبيدها وتخطيطها بطريقة ممتازة، ووضعوا تحتها خطوط خدمات مدروسة بحيث لا يُضطرون إلى الحفر المتواصل، لتعطل عمل المقاولين. ومع المقاولين يعمل فنيون ومهندسون وعُمال لهم عائلات يجلبون لها الخبز. وهناك جهاز بلدي سمين لإجراء الدراسات ووضع المشاريع وإحالة العطاءات والذي سيصبح رشيقاً إذا قلت الحاجة. وإذا ذهبت هذه الأعمال وانضم كادرها إلى العاطلين على العمل، فمن أين السيولة لتشغيل البقال وصاحب المطعم وبائع الملابس؟
وإذا ذهبت إلى دائرة حكومية، فأنجز لك موظف واحد معاملتك في مكان واحد وبحد أدنى من التواقيع والأختام، فأين سيذهب موظفو القطاع العام الذين يحوّلونك من مكتب إلى مكتب ودائرة إلى أخرى؟ وإذا كان لدى الناس التزام عالٍ بالأخلاق، فأتقن «الصنايعي» عمله، فمن أين سيشتغل إذا لم تكن هناك ضرورة لاستدعائه مرة أخرى؟ وإذا لم يخالف مستخدم الطريق قوانين السير، فما الحاجة إلى كل هؤلاء العاملين في دائرة السير الضخمة؟ وكيف يعمل الميكانيكي وبائع القطع إذا لم تكن هناك حوادث سير بسبب سوء الطريق والأخلاق ومخالفة القوانين؟ وإذا أتقن المسؤول وصاحب القرار عمله وراعى فيه الذمة ونظافة اليد، فكيف «يستفيد ويفيد» وماذا يفعل الناس بلا محسوبيات وواسطات؟ وإذا أحسن المعلِّم التدريس في الصفّ، فما الحاجة إلى الدروس الخصوصية التي تجلب الألوف؟ سوف يكون لديك بلد يمشي كالساعة. وسوف تحتاج إلى عدد أقل من العاملين في كل مجال ويقعد أكثر الناس بلا عمل. ولذلك، ربما تكون فوضى الأخلاق وعدم إتقان شيء هي نسخة «الفوضى الخلاقة» التي تخلق الأعمال للمسؤولين والمواطنين على حد سواء وتحرك السوق –وربما «ترتّب» الشرق الأوسط بطريقة لم تخطر ببال كوندوليزا رايس.
الحقيقة أن الأشياء ليست كذلك. لكن إفلاس الأفكار –وربما قدر كبير من اليأس- يُلجِئان إلى طباق المثل الشعبي «الفراغ يعلِّم التطريز». وليته كان تطريزاً فنياً جميلاً على الأقل! في اليابان مثلاً، كما يفيد قريب في زيارة إلى هناك، تبحث حتى عن وعاء قمامة واحد في الشوارع فلا تجده. ومع ذلك الشوارع نظيفة جداً. ولا حاجة إلى حراس أمن ودوريات شرطة، لأنك تترك أي شيء على قارعة الطريق فلا يتطوع أحد بسرقته. وفي المرافق الصحية العامة، ليس هناك أشخاص يدورون بالمكانس والمماسح كالنحل كل الوقت. إنك لا ترى منهم أحداً ولا تعرف متى يأتون. وكما نرى في «يوتيوب»، فإن عاملاً واحداً بسيارة يقوم وحده برقع حفرة في الشارع وليس ورشة طويلة عريضة… وهكذا.
اليابانيون إذن لا يعملون؟ يفيد قريبي بأنهم لا يغادرون أعمالهم في الثانية والنصف بعد الظهر، وإنما في السادسة مساءً –أي أنهم يعملون، ويعملون كثيراً. ولكن فيمَ يعملون؟ كلنا يعرف براعة بلدهم في التكنولوجيا وصناعة السيارات والآليات والأجهزة الكهربائية والتلفونات الذكية ومئات الأشياء التي نستهلكها نحنُ وغيرنا وندفع دخولنا ثمناً لها. وبذلك، يكون رزق الذين ليسوا هُبلاً بالتأكيد على المجانين حقاً. فبينما نخلق أعمالاً بإعادة تعبيد الشوارع وحفرها وإعادة تعبيدها، وبرمي النفايات في الشارع حتى يشتغل عمال الوطن، ونبتكر متطلبات لتشغيل قطاع عام متطرف في التضخم ليكسب الناس، فإننا ندفع معظم عوائد كل هذا العمل لمصانع اليابان وأمثالها وندفع رواتب عمالها. ومع كل ذلك، قليلون ينافسوننا في البطالة والمزيد من الفوضى التي ليست خلاقة حتماً.