عمق الخطاب

ما سمعناه من خطابات قادة الدول العربية والإسلامية في قمة الرياض يوم السبت الماضي حمل في معظمه لغة مشتركة في إدانة جرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل في غزة والضفة الغربية، وفي الدعوة لوقف العدوان، وإنقاذ المدنيين بشتى أشكال المساعدات والمعونات، وفي تحميل المجتمع الدولي مسؤولياته لتطبيق الشرعية الدولية المتمثلة في قرارات مجلس الأمن الدولي والجمعية العامة للأمم المتحدة.

اضافة اعلان


لكن خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين حمل أبعادا لا بد من شرحها، ليس في معرض المقارنة، وإنما من أجل فهم العمق الذي ذهب إليه جلالته، وهو الذي قام بأكبر وأوسع تحرك منذ بداية الحرب الإجرامية على غزة، من خلال المحادثات المباشرة مع قادة الدول الأوروبية التي أصدرت بيانا مشتركا مع الولايات المتحدة تؤيد فيه الهجوم الإسرائيلي بلا حدود تحت إدعاء حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها، إلى جانب الاجتماعات المهمة جدا التي عقدها في بروكسل مع قيادات الاتحاد الأوروبي، وكذلك اللقاءات التي عقدت في عمان مع وزير الخارجية الأميركي، والاتصالات المكثفة مع عدد من القادة العرب، والهيئات الدولية المختلفة.


لقد أراد جلالة الملك أن يبين الفرق بين أن يتركز التفكير حول ما يجري في غزة على اعتبار أنها أزمة سبقتها أزمات، فتتبارى المواقف عند هذه النقطة على أهميتها من الناحية الإنسانية، وبين التفكير في أصل الأزمة وأسبابها ودوافعها، فوضع في مقدمة كلمته الحقيقة الصادمة التي لا يجوز التغافل عنها أو التقليل من أهميتها ألا وهي (المظلمة التاريخية) قائلا (هذا الظلم لم يبدأ قبل شهر، بل هو امتداد لأكثر من سبعة عقود سادت فيها عقلية القلعة وجدران العزل والاعتداء على المقدسات والحقوق، غالبية ضحاياها المدنيون الأبرياء) وفي ذلك ما يؤشر بشكل واضح على طبيعة الكيان الإسرائيلي، وأكثر من ذلك بكثير للذين يعرفون تاريخ ومعنى وأبعاد (عقلية القلعة) لكي يدركوا الأسباب التي تجعل ذلك الكيان يتمرد على جميع القوانين الدولية، ويذهب عضو في حكومته حد الدعوة إلى ضرب غزة بالقوة النووية!


ثمة علاقة واضحة بين ما قاله جلالة الملك أمام القمة العربية الإسلامية، وما قاله لقادة الدول الغربية على وجه الخصوص من أن تلك العقلية التي ترون أحد مشاهدها في الأراضي الفلسطينية تغرس بذرة الكراهية والحقد لتكبر وتنفجر لتهدد السلام العالمي كله، وفي مقدمته السلام والأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط كلها، وبالتالي فإن ما تمارسه إسرائيل من جرائم الإبادة الجماعية هو دليل آخر على أنها تملك جيشا عقيدته القتل، وهو جيش مجرد من الأخلاق والقيم حتى بالنسبة لجيوش الدول الحليفة له، وهذا في حد ذاته تترتب عليه مسؤولية دولية!


لقد بعث جلالة الملك برسالة واضحة وحاسمة إلى العالم كله، بأن ما يجري منذ عدة عقود من انتهاك صارخ لحقوق الشعب الفلسطيني، وفي مقدمتها حقه في إقامة دولته المستقلة بعاصمتها القدس الشريف، لم يكن ليحدث لولا التواطؤ، والكيل بمكيالين، دون حساب الضرر المباشر على الدول نفسها التي تقدم الدعم لإسرائيل، وتحشد كل قوتها في كل مرة لدعم عدوانها، بدل أن تحشدها من أجل تحقيق السلام العادل في المنطقة. 


كذلك ختم جلالة الملك خطابه بعد أن لفت الانتباه إلى إمكانية البناء على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن غزة الذي وصفه بأنه انتصار للقيم الإنسانية، ختم بخلاصة هدفها التحذير من أن العالم سيدفع ثمن الفشل في حل القضية الفلسطينية، ومعالجة المشكلة من جذورها، ولا بد أن يؤخذ هذا التحذير على محمل الجد، لأنه صادر عن زعيم سبق أن حذر مما يجري الآن في قطاع غزة والضفة الغربية قبل أسابيع قليلة من وقوع تلك الأحداث يوم السابع من أكتوبر الماضي، وحذر كذلك من تطور النزاع ليشمل المنطقة والعالم، وها هو الآن يقول لهم جميعا إنكم تتحملون وزر هؤلاء الضحايا من الأطفال والنساء والشيوخ، وستلاحقكم لعنة المستشفيات والمدارس والجوامع والكنائس والمنازل إذا تخليتم عن مسؤولياتكم القانونية والأخلاقية والإنسانية والسياسية، اعتبارا من هذه اللحظة التاريخية!

 

للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنا