معايير النشر الأكاديمي تكريس لتبعية الأطراف للمركز

أحمد جميل عزم- قبل نحو خمسة عشر عاماً، دعي أستاذ عربي لإلقاء محاضرة في جامعة عالمية، حول السياسة الأميركية في العراق ونظريات إدارة الصراع والفشل الأميركي في تحليل المجتمع العربي. بمجرد عودة الأستاذ لبلده ترجم المقال للعربية وأرسله للنشر في دورية عربية. وقُبِلَ البحث واجتاز التحكيم، ونشر، وبعد ذلك، بأشهر فوجئ أن المقال ترجم للإنجليزية بتنسيق من الدورية العربية التي نشرته (مع أنّ أصله الإنجليزي لديه) وأنّ دورية تصدر في لندن عن دار نشر مرموقة تنشره وتطلب موافقته على الترجمة، وقرأها ووافق فعلاً.

اضافة اعلان


لطلب الترقية في جامعته توجّب تقديم عدد من الأبحاث المنشورة، وأرسل ما ظنّ أنه يزيد عن الحاجة. وفي حالة البحث أعلاه أرسل الأصل العربي، وكتب ملاحظة أنّه نُشرَ مترجماً أيضاً بالإنجليزية، وأرفق الترجمة، ولما جاءت النتيجة، كانت عدم اعتماد الأبحاث المنشورة بالعربية، بما في ذلك هذا البحث واعتماد ترجمته الإنجليزية، وقبولها للترقية.
لا ألوم الجامعات كُلّياً على هذا الواقع، فالأمر منظومة أكبر وأعقد.


في بعض الدول لا تهتم الجامعات، أو لا تستطيع، لأسباب اجتماعية وسياسية وحتى نقابية وتجارية ومالية أحياناً أن تفرض على الأساتذة نشر أبحاث ودراسات علمية جديدة شرطاً لبقاء الأستاذ في الجامعة. وهناك جامعات، وهي غالباً الأقوى والأهم، تطلب ذلك، وهو مطلب محق لأنّ الأستاذ الجامعي مهمته عدا التدريس إنتاج معرفة تواكب التطور والتغير. والجامعات التي لا تطلب من أساتذتها وطلاب الدراسات العليا، النشر العلمي، ولا توفر لهم إمكانيات لذلك، تفقد قيمتها ومعناها الحقيقي تدريجياً، وتفقد شهاداتها قيمتها في سوق العمل.


عندما يؤلّف الأستاذ كتاباً للتدريس في اللغة العربية، فغالباً لا يؤخذ هذا بالاعتبار سواء لترقيته، أو كمتطلب لبقائه في الجامعة، فالمطلوب غالباً بحث في دوريات علمية عالمية محددة (باللغة الإنجليزية) مصنّفة ضمن قواعد بيانات وقوائم محددة.


يمكن تفهم شروط الجامعات من زاويتين، الأولى أن من أهم أسس ترتيب ومراكز الجامعات في التصنيفات العالمية هي النشر في الدوريات المعتمدة دولياً، وغالبيتها الساحقة بالإنجليزية، والدوريات العربية في هذه القوائم قليلة للغاية. والزاوية الثانية أنّ هناك فارقا نوعي يمكن أن يعرفه من يعمل على النشر، في معايير التحكيم والتحرير بين الدوريات العربية والغربية، فهناك عمليات تحكيم جادّة في عموم الدوريات الأكاديمية الغربية المصنفة ضمن قواعد البيانات المعتمدة، تفتقر لها غالبية الدوريات العربية.


النتيجة الحقيقية لمجمل هذه المنظومة، هي تشجيع النشر بغير اللغة العربية. وما يحدث حقيقة، خصوصاً في العلوم الإنسانية، أنّ الدوريات والجامعات الغربية تُرحب بالأبحاث الخاصة بمنطقة الشرق الأوسط، أي التي يلقي الباحث فيها الضوء على منطقته، أما الأبحاث النظرية والعلمية المجردة والعالمية، فيبدو الباحث الشرق أوسطي، غير مرحب به، على اعتبار انّ هناك وفرة في هذا المجال في الغرب، وهذا يعني أن المنتج العلمي المجرد والنظري من، وفي، الشرق الأوسط محدود. (طبعا هذا مأزق مناطق العالم التي لا تتحدث الإنجليزية عموماً).


هذا يعني تقلصا تدريجيا للمواد المنشورة بالعربية للطالب العربي، ويعني فقر الجامعات العربية بالأبحاث والنصوص المعدة للدراسة والبحث، باللغة العربية. وأخيراً سيصبح الأكاديمي العربي جزءا من تعزيز المركزية الأوروبية والغربية في المعرفة، وتتراجع فرص التطور باللغة العربية، وستتعزز تبعية الصناعة والتفكير والاختراعات المرتبطة بالمؤسسات الغربية. وسنبقى من الدول الأطراف التابعة للمركز الغربي، وسيصعب حتى نقل المعرفة من هناك.


هناك تحفظات مفهومة وصحيحة، بشأن معايير النشر والتحكيم في كثير من الدوريات العربية، وبشأن مستوى دور النشر العربية (غير التابعة لمراكز أبحاث)، فغالبية دور النشر أقرب للمطابع التي تنشر المادة التي تصلها في مقابل مادي، مع القليل من معايير الجودة، لكن في النهاية، شاء الأستاذ أم رفض، النتيجة تراجع مستوى المادة العلمية المنشورة باللغة العربية، وتراجع المادة المتوفرة للطلاب والشباب الجدد، وفقر للمجالين البحثي والفكري باللغة العربية.


السؤال هو ما هي المعايير والخطط الحقيقية، لإيجاد آفاق نشر وبحث بمعايير عالية وفق قواعد محكمة، تضمن الجودة، في المؤسسات الأكاديمية العربية، وتصبح مقبولة. ثم بعد ذلك أيضاً كيف يمكن التمرد على قواعد تصنيف وترتيب الجامعات عالمياً التي تجعل اللغة الإنجليزية هي اللغة المعتمدة.

المقال السابق للكاتب

إسرائيل بين “الأزمة الدينية” و”القائمة النسبية”