نظرة في العمق

لم تكن القضية الفلسطينية يوما شأنا خارجيا بالنسبة للأردن، لقد ارتبط الهاشميون والأردنيون ارتباطا وثيقا بتلك القضية منذ عهد الشريف الحسين بن علي طيب الله ثراه إلى يومنا هذا، وعبر ذلك التاريخ الطويل ظل الأردنيون متحدين مع الشعب الفلسطيني في جميع مراحل تلك القضية وشعبها بالقلب والضمير والدم، ووحدة الهدف والمصير.

اضافة اعلان


هنالك أوصاف عديدة لطبيعة ونوعية علاقة الأردن بفلسطين، لشدة ارتباطها بالأمن القومي من ناحية، وارتباطها بالنسيج الاجتماعي المشترك من ناحية ثانية، ويبدو أن هذه المعادلة أعمق من أن تفهم على مستوى التحليل السياسي السائد على الساحة العربية التي لا تتوقف أبدا عن خلط الأوراق عند كل أزمة تتعلق بالقضية الفلسطينية أو غيرها من القضايا العربية الراهنة.


ما يحدث في العادة، مثلما يحدث الآن منذ السابع من أكتوبر الماضي تتصدر المشهد جهات متعددة، تدفع في اتجاه المزايدة الكلامية، بعضها تحكمه العاطفة، وتلك حالة يمكن فهم أسبابها، وبعضها مرتبط بأجندات هدفها تحويل الأنظار عن جوهر القضية، ساعية إلى إحداث حالة من التشكيك والتشويه والاتهام لشق الصفوف، وإحداث تباين بين الموقفين الرسمي والشعبي.


تلك اللعبة غالبا ما تفشل على ساحتنا الوطنية رغم كل محاولات الإسقاط الآتية من جهات مختلفة، وذلك نتيجة جهلها لطبيعة المعادلة التي تربط الأردن وفلسطين، وعدم استيعابها لمنظومة الثوابت التي تحكم الموقف الأردني تجاه الحقوق الفلسطينية المشروعة وفي مقدمتها حقه في إقامة دولته المستقلة على حدود الرابع من حزيران عام 1967 بعاصمتها القدس الشريف، مؤكدا على وحدة تلك الأراضي، خاصة بعدما بدأ الحديث عن ترتيبات بشأن قطاع غزة وفصله من الضفة الغربية.


الأمثلة لا حصر لها حول سوء فهم الموقف الأردني من الحرب على غزة وما يحيط بها من تطورات إقليمية ودولية، وبالنسبة لنا لا بد أن نقدم صياغة واضحة لذلك الموقف ترتكز على مجموعة من الحقائق والثوابت التي لا يمكن إنكارها ومن أهمها ما يلي:


أولا- إن جلالة الملك عبدالله الثاني بن الحسين هو أول من حذر من أن استمرار الكيان الإسرائيلي في إنكار الحقوق الفلسطينية، وسياسته المتطرفة، وايذائه المستمر للشعب الفلسطيني سيؤدي حتما إلى انفجار الوضع بالصورة التي رأينها يوم السابع من أكتوبر الماضي.


ثانيا- إن الرأي القاطع الذي تبناه جلالة الملك في جميع مباحثاته واتصالاته مع قادة الدول العربية والإسلامية والدولية مبني على أن الجرائم التي ترتكبها إسرائيل وحرب الإبادة على غزة لا يمكن القبول بأنها دفاع عن النفس، ولا يجوز أن يقف العالم مكتوف الأيدي أمام هذا الحجم من الاختراق والازدراء للشرعية الدولية وقراراتها ومعاهداتها واتفاقياتها ولا السماح بتوسيع نطاق الحرب، وتهديد أمن واستقرار المنطقة والعالم.


ثالثا- حدد جلالة الملك أوليات التحرك الدولي في وقف الحرب وايصال المساعدات الإنسانية لقطاع غزة، ووقف المداهمات في الضفة الغربية، والاعتداءات على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، وفي مقدمتها المسجد الأقصى المبارك، وكان الأردن في طليعة من أرسل المساعدات، وخاصة الطبية للمستشفى الميداني في غزة، وفي خان يونس، إلى جانب المساعدات التي تذهب عن طريق الهيئة الخيرية الهاشمية.


رابعا- في الوقت الذي بدأ فيه الحديث عن (اليوم التالي) عبر الأردن بوضوح عن موقفه بأن اليوم التالي إن لم يكن يوما لإنهاء الاحتلال والقبول بحل الدولتين فلن تعرف هذه المنطقة الأمن والاستقرار أبدا.


الموقف الأردني من هذه الناحية هو موقف قيادي وريادي لا يتخذه من أجل أن يعبر عن نفسه ولكن من أجل أن يجمع من حوله موقفا تضامنيا واسع النطاق، ومن أجل أن تفرض الشرعية الدولية وجودها وتدافع عن جدوى منظماتها المسؤولة عن السلام العالمي وعن الحقوق الإنسانية والقانونية والأخلاقية، والأردن يتعامل حتى هذه اللحظة مع الوضع القائم بالشكل الذي هو عليه بظاهره وباطنه، وهو ينظر في العمق ويرى الخيوط ويميزها رغم تشابكها، وبالتالي فإن موقعة في التوازنات الإقليمية والدولية ودوره وقوته ومسؤولياته التي يتحملها أكبر وأرفع بكثير من محاولات التشويه ومن يقفون خلفها.

 

للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنا