ظلال على طريق الحرير: العثور على نذر الأفول الأميركي في مسيرة طويلة عبر آسيا

Untitled-2
Untitled-2

بول سالوبيك – (نيويورك تايمز) 16/1/2021

ترجمة: علاء الدين أبو زينة

اضافة اعلان

يانغون، ميانمار – تكشف لي الانحدار الذي يلوح في أفُق الولايات المتحدة قبل خمسة تشرينات مضت، في محطة لتوقف الشاحنات في أوزبكستان. كنت آخذ قيلولةً بعد يوم طويل من التنزه بالقرب من مدينة قوقند التجارية القديمة عندما اندلع شجار. عوى السُّكارى. وضربت القبضاتُ اللحم. وفي مكان ما تحطمت نافذة. وأقحمت نادلة قلِقة رأسها في حجيرة طعامي المعزولة بستائر؛ أرادت أن تعرف ما إذا كان لديّ أيُّ سكَّر في حقيبة الظَّهر ليستخدموه كضاغط منزلي الصنع لإيقاف النزف من جرح زبون طُعن بسكين.
وسط المشاجرة، كدت أفوِّت الخبر الكبير لذلك اليوم، والذي كان مذيع روسي يعلنه بلهفة من تلفزيون مشبوح على الحائط: تم انتخاب دونالد جيه. ترامب رئيسًا للولايات المتحدة.
بالنظر وراءً الآن، يبدو من المضحكِ تقريبًا النظر إلى تلك الظهيرة القاتمة في آسيا الوسطى كنذير ينبئ بعصر أميركا المقبل من الاستقطاب السام، وحكمُ الرعاع، والتراجع العالمي. ولكن، كان من الصعب نفض هذا الانطباع عن الكاهل. وربما يكون ذلك لأنني قضيت فترة إدارة ترامب بأكملها وأنا أخطو على أنقاض تجربة أخرى في التعددية، كانت دينامية ضاجة بالحياة ذات مرة، وانهارت: "طريق الحرير".
إنني أتجول، ماشياً، في جميع أنحاء العالم. وكنت، منذ العام 2013، أتعقب، سيرًا على الأقدام، مسارات أول إنسان عاقل تجوّل خارجاً من إفريقيا خلال العصر الحجري. وغالبًا ما أكتب عما أراه، مستخدماً الماضي العميق دليلا مرشدا للملاحة وتلمُّس الطريق عبر مسالك الحاضر وأحداثه.
في الآونة الأخيرة، كان من المذهل حقاً أن أمضي ببطء على "طريق الحرير"، هذه الرابطة التجارية الأسطورية التي بعمر 2000 عام، التي ربطت أسواق وعقول آسيا، وأوروبا، وأفريقيا من خلال شبكة معقدة من المسارات التجارية، فيما تختبر الولايات المتحدة، تحت قيادة زعيمها الأكثر صنعاً للاستقطاب في أجيال، استقطابًا شديدًا حول العرق والهوية، وصعود ميليشيات التفوقيين البيض، ووجود رئيس استبدادي ظل يهاجم المؤسسات الوطنية حتى أيامه الأخيرة في المنصب.
إذا نُظر إليه من بعيد، فإن بلدي لا يتقلص من فوق كتفي فحسب. إنه ينسحب في الواقع إلى وضع جنيني.
شققتُ طريقي بجَهد عبر سهول آسيا الوسطى التي غمرتها الأمطار الأكثر غزارة من أي شيء تحتفظ به الذاكرة، على سبيل المثال، بينما أدارت واشنطن ظهرها لاتفاقية باريس بشأن تغير المناخ. وغرّد الرئيس ترامب حروبه تعريفته الجمركية ضد الصين بينما أحاول أن أتفادى حركة السير الكثيفة بطريقة قاتلة على "طريق غراند ترانك" الذي يبلغ عمره 2.500 عام في الهند -ربما يكون أقدم طريق تجاري بري ما يزال قيد الاستخدام.
لأكثر من 6.000 ميل، تعقبتُ خطى التجار متعددي اللغات والرهبان المسيحيين النسطوريين والحجاج البوذيين والعلماء الفرس المسلمين الذين جعلوا طريق الحرير قناة ناقلة للابتكار البشري، بينما ترتفع نسخة فولاذية من سور الصين العظيم على حدود الولايات المتحدة مع المكسيك.
"ترامب"! هتف جندي متبجحاً بينما كنتُ أسير متثاقلاً، متشقق الجلد مسفوعاً بأشعة الشمس وتفوح منى رائحة نيران المخيم، إلى حدود قيرغيزستان. وأعطاني غمزة ويداً مقبوضة بإبهام مرفوع. ومثل معظم أفراد الأمن الذين قابلتهم في رحلتي، أبدى إعجابه بزميل من جماعة "قومية الدم والتراب" النازية في البيت الأبيض. لكنه كان طباقاً لانقلاب السحر على الساحر برغم ذلك. دخلت قيرغيزستان، حيث أُقحِم القرغيزيون المساكين في قائمة "حظر المسلمين" الذي أصدره ترامب، والذي فرض قيودًا شديدة على سفر مواطني العديد من الدول إلى الولايات المتحدة.
شبَّك طريق الحرير بين شهيّتي الإمبراطوريتين الرومانية والصينية القديمتين منذ أكثر من 2000 عام. وسمّى الجغرافي الألماني في القرن التاسع عشر، فرديناند فون ريشتهوفن، الطريق التجاري على اسم السلعة الأكثر شهرة التي تنتقل عليه. لكن الأمر كان يتعلق بأكثر من الحرير في الحقيقة. فقد نشر "طريق الحرير"، الذي أصبح يرمز إلى التبادل الحر بين الثقافات، الفن الإغريقي القديم شرقًا إلى آسيا الوسطى البوذية. والورق الصيني -الاختراع الحاسم، تماماً مثل أجهزة الحاسوب، لنقل المعرفة بسرعة وقليل كلفة- سافر غربًا إلى جزيرة العرب وأوروبا العصور الوسطى.
تصادمت تعاليم أرسطو مع المفهوم الهندي الرياضي للصفر وتلاطمت بينما كانت محمّلة على قوافل الجمال المغبرة. وبحلول العام 1000 بعد الميلاد، حوّل هذا البازار الحضاري الثريُّ حارسات "طريق الحرير"، المدن/الدول الإسلامية في آسيا الوسطى، إلى مراكز تعليمية مزدهرة ومتعددة الثقافات.
في كتابه "طرق الحرير: تاريخ جديد للعالم"، كتب المؤرخ بيتر فرانكوبان: "لقرون قبل العصر الحديث المبكّر، لم تكن المراكز الفكرية للتميز في العالم، من أشباه أوكسفورد وكامبريدج وهارفارد وييل، توجد في أوروبا أو الغرب. كانت توجد في بغداد وبلخ، وبخارى وسمرقند".
في صيف العام 2016، أطلق شريكي الكازاخستاني في رحلة المشي طلقات فارغة من مسدس انطلاق لإبعاد الذئاب الفضوليّة ليلاً أثناء عبورنا هضبة أوستجورت، وهي صحراء تطرقها السماء تتقاسمها تركمانستان وأوزبكستان وكازاخستان. وكنا في طريقنا إلى إحدى لآلئ المنطقة: واحة خيوة.
بمزيجها من الحجر الرملي في الساحات والمآذن والمساجد، تشكل خيوة انتصاراً للعمارة في آسيا الوسطى. وتشير شرفات قصورها ذات الأسقف العالية في اتجاه الشمال، حيث تلتقط رياح الصحراء الباردة في الصيف، وتُبقي غرفُ معيشتها الصغيرةُ قاطنيها دافئين في الشتاء. كان تصميمها الحضري تحفة من الديناميكا الحرارية. وقد كدح العلماء في أكاديمية ملكية بين القرنين العاشر والثاني عشر، وهم يعملون على ترجمة النصوص اليونانية الكلاسيكية إلى العربية، واعتماد الابتكارات التكنولوجية الصينية، وتحسين الرياضيات الفارسية والهندية. كان ذلك بوتقة حقيقية لصَهر المعرفة المعولمة.
تقول إنيسا يوفاكيفا، التي تعمل مرشدة ثقافية في المدينة القديمة المسوَّرة في البلدة، "قبل ألف عام كان لدينا علماء فلك ورياضيات من الطراز العالمي والعديد من العلماء الآخرين هنا. كنا أكثر تقدمًا من أوروبا".
وقاد أضاء ذلك "العصر الإسلامي الذهبي" للعلوم والفن الذي سبق النهضة الإيطالية بـ400 عام، مفكرون أتراك وفرس من الحافة الشرقية لأراضي الخلافة العباسية، في ما أصبح يعرف اليوم بآسيا الوسطى، وغربي الصين وأجزاء من إيران.
واستحضرت السيدة يوفاكيفا قائمة من العباقرة الآينشتاينيين المحليين. محمد الخوارزمي، عبقري القرن التاسع الذي ساعد في صياغة مبادئ الجبر، وأعطى اسمه لكلمة "خوارزمية". وبعد قرن لاحقاً، كتب العالم الرائع، أبو الريحان محمد البيروني، أكثر من 140 مخطوطة في كل شيء، من الأدوية إلى الأنثروبولوجيا الهندية. (ثمة عنوان نموذجي للبيروني: "أطروحة شاملة عن الظلال").
وربما كان الحكيم الأكثر شهرة بين الجميع في "طريق الحرير" هو أبو علي الحسين بن سينا، الذي حظي بالتوقير والإجلال في الغرب الذي سماه "أفيسينا" Avicenna، والذي جمع في القرن الحادي عشر موسوعة للشفاء، ظلَّ الأطباء الأوروبيون يستخدمونها حتى القرن الثامن عشر. وقد شخَّصت موسوعة ابن سينا، "القانون في الطب"، مرض السكري بدقة من خلال تذوق الحلاوة في البول. وصنف "كتاب الأدوية" فيها أكثر من 800 علاج. ومنذ ألف عام، أوصى ابن سينا بالحجر الصحي للسيطرة على الأوبئة. وقد تساءلت، ماذا سيكون رأيه في الجهل المتعمد لمناهضي ارتداء أقنعة الوجوه اليوم في الولايات المتحدة؟
أن يذرع المرء القارات على الأقدام هو تمرين في التواضع. إنك تقطُن في حدود الخطوات التي تخطوها يومياً. إلى ظل الشجرة التالي. إلى الأفق المقبل. وفي المقابل، يُسبِغُ سيرُك عليكاَ نوعًا من اتزان العقل ورباطة الجأش؛ سمّه الاستشراف البعيد. وسرعان ما يتحول "طريق الحرير" إلى كل طريق. وتماماً مثلما تكون بعض الدول في طريقك غارقة في أحلامها، ثمة أخرى ترمش مستيقظة.
خذ أوزبكستان؛ باعتبارها مفترق طرق على "طريق الحرير" القديم، اذ انتقلت هذه الجمهورية السوفياتية السابقة غير الساحلية مؤخرًا من دولة بوليسية إلى واحدة بإصلاح متواضع. وكانت المنطقة التي حكمتها قبل ألف عام ممالك إيرانية وتركية، تمارس تجارة مربحة مع الصين، وبلاد فارس والهند، مما أثرى مدناً فيها مثل بخارى وسمرقند. وفرضت أكثر من ستة عقود من الشيوعية في ظل الاتحاد السوفياتي توطين البدو، وقمعت الدين وزعزعت أسس التكوينات الهرمية الإقطاعية القديمة. وبحلول أواخر التسعينيات، اندلعت ردة فعل أصولية قادتها "الحركة الإسلامية في أوزبكستان"، والتي قُمِعت بلا رحمة.
بينما كنتُ أرتحِلُ في أنحاء هذا البلد، حثَّت اللوحات الإعلانية المواطنين: "كُن يقِظاً"! واستهدفت هذه الملاحظات الأورويلية، ظاهريًا، التشدد الإسلامي. لكنها أثارت، من الناحية العملية، الشكوك حول أي "آخر"، بما في ذلك شركائي الأوزبكيين في المشي، وحماريّ حمل الأمتعة، وأنا. وأطبق خوف مدفوع بجنون الارتياب من الغرباء على القرى الموحلة على طول نهر آمو داريا، الذي سمّاه الإسكندر الأكبر "أوكسوس". والمزارعون المحليون المتلصِّصون من خلف ستائر الدانتيل، وهواتفهم المحمولة موصولة بالأذنين، أبلغوا عنا الشرطة بلا توقف. واحتجزتنا قوات الأمن الأوزبكية لاستجوابنا 34 مرة.
قال شرطي سري في نقطة أمامية صحراوية تسمى جاسليك، حيث احتفظ النظام بسجن سياسي سيئ السمعة: "أسدوا لي معروفاً. غادروا المدينة الآن. هناك خمسة أو ستة أجهزة أمنية تعمل هنا. كلنا نتجسس على بعضنا البعض. وأنتم تثقلوننا بعمل إضافي".
توفي إسلام كريموف، ديكتاتور أوزبكستان، بينما كنت أجوب أنحاء البلد المعزول، في أيلول (سبتمبر) 2016. ("قدركُم هو هو قدري"، أحب السيد كريموف أن يقول لشعبه. "سعادتكم هي سعادتي"). وقد تحسنت حياة الأوزبكيين قليلا منذ ذلك الحين. تم إغلاق الغولاغ، واقتصاد البلد يتحرر.
وبمجرد تخفيف القيود التي جلبها الوباء، لن يحتاج السائحون الراغبون في زيارة موطن فلاسفة "طريق الحرير"، مثل البيروني، إلى حمل 11 صفحة من التصاريح الأمنية -كما فعلت أنا ذات مرة- ببساطة لمجرد النوم خارج فندق معتمد رسميًا.
بالعودة إلى الولايات المتحدة، يبدو أن البلد قد أحدث استدارة كامة، عائداً إلى تضاريس أوزبكية أكثر عفونة. هناك أيضاً نصبت الحكومة إعلاناتها الخاصة لتخويفها، حيث تضمنت اللوحات الإعلانية لإدارة الهجرة والجمارك في ولاية بنسلفانيا صوراً جنائية لمهاجرين غير مسجلين متهمين بارتكاب جرائم. واستجوب عملاء فيدراليون مواطنين أميركيين لأنهم يتحدثون بالإسبانية في مونتانا. ويقال إن رئيساً منصرفاً، بنسخته الخاصة الضخمة من عبادة الشخصية، اقترح إطلاق النار على المهاجرين في أرجلهم في ريو غراندي. ولا يبدو تعميم السيد ترامب للعنصرية وكراهية الأجانب وإنكار العلم مؤقتًا كثيراً. لقد أيده أكثر من 74 مليون ناخب أميركي. بل إن بعضهم لبوا دعوته إلى التمرد.
لقد صنع "طريق الحرير" عالمَنا. قبل عشرة قرون، كانت مجتمعات متنوعة بشكل لا يصدق وتتمدد على نصف الكرة الأرضية، قد مدّت يداً مفتوحة –من الصحيح بما فيه الكفاية أيضاً أنها كانت واحدة تقبض على عملة التجارة- وليس قبضة مضمومة. وقد نمت قدرة البشرية على الفضول. وكذلك فعل، لفترة من الوقت، الإنجاز الفكري وانفتاح العقل. لكنّ ذلك، بحلول القرن السابع عشر، خفَت وتلاشى.
يحلل المؤرخ س. فريدريك ستار بعناية تدهور "طريق الحرير" في كتابه "التنوير المفقود: العصر الذهبي لآسيا الوسطى، من الفتح العربي إلى تيمورلنك". وهو يلقي باللائمة على الغزوات المغولية، والرعاية الواهنة للسلاطين الأثرياء، والمنافسة البحرية الأوروبية المتزايدة، وحتى تغير المناخ، كعوامل للانهيار. لكنه يؤكد ظاهرة تبدو مُستلّة من وسائل التواصل الاجتماعي اليوم: الاستقطاب الشديد.
كما كتب السيد ستار، فإن الخلافة العباسية القوية التي حكمت آسيا الوسطى من بغداد، شرعت، وقد أضعفتها صراعات السلالات الحاكمة، في الانهيار تحت وطأة التنافس الديني والخصومات بين الطائفتين السنية والشيعة. وظهرت حركة إسلامية تطهيرية حَرْفية تسمى "الأشعرية" كرد فعل ضد عقلانية "العصر الإسلامي الذهبي" و"عناصره الخارجية" في الفكر.
ويكتب السيد ستار: "بحلول أواخر القرن الحادي عشر، كانت حرب ثقافية شاملة قد اندلعت". وكانت مسلماً ضد مسلم، حيث "حُراس الدين السنة يتأكدون من أن لا يضلّ أي مفكر الطريق إلى خارج الحدود الصارمة للتقاليد، واستجاب حراس الدين الشيعة بالمثل. وعلِق الاستنطاق الحرّ في تقاطع النيران".
وكانت النهاية قاسية وحشيةً. عندما عاود المستعمرون الأوروبيون مواجهة آسيا وسطى ناعسة مرة أخرى في القرن التاسع عشر، كانت خانات "طريق الحرير" قد تحولت إلى خزائن عجائب للعزلة والنأي والركود. كان الطغاة المحليون قد عزلوا شعوبهم عن العالم الخارجي. وأخضعت الإمبراطورية الروسية وبريطانيا بسهولة المدن المسوَّرة الأخيرة. ونُقلت مكتبات التنوير الإسلامي المهترئة إلى سانت بطرسبرغ ولندن.
أثناء تجوالي في أفغانستان في العام 2017، رأيت مدى ضآلة التغيُّر في منسوبِ ازدراء العالم الخارجي لآسيا الوسطى منذ ذلك الحين. قطعتُ 16.000 قدم في السهوب المجللة بالثلوج لـ"ممر واخان"، وهو مجاز مختصر من "طريق الحرير" عبر هندو كوش. وهناك، تعلَّقت القرى المسوّرة بالحجارة مثل أعشاش دبابيرٍ من المنحدرات. وثبَّت قاطنو الجبال الإسماعيليون قرون الكباش البرية على قبور موتاهم، كما فعلوا غالباً لآلاف السنين. وكان الدليل الوحيد المرئي على حرب أميركا المشلولة التي تكلفت تريليوني دولار في أفغانستان هو الوجه المنهك في مرآة جيبي التي أستخدمها للحلاقة. (كنتُ قد غطيت سقوط طالبان وتداعياته في شتاء 2001-2002).
أسقطَت وزارة الدفاع الأميركية "أم كل القنابل"، المتفجرة التي يبلغ وزنها 20 ألف رطل، على "الدولة الإسلامية" في ذلك الصيف. واستدعى ذلك إلى البال فقرة عمرها 120 عامًا من رواية جوزيف كونراد، "قلب الظلام"، والتي تصف سفينة حربية استعمارية تقصفُ ساحل غربي إفريقيا:
"في الامتداد الفارغ اللانهائي من الأرض والسماء والماء، كانت هناك، غامضةً غير مفهومة، تطلق النار على القارة. "بوب"، سيقول واحد من المدافع ذات الست بوصات؛ وسوف تنبغُ شعلة صغيرة وتختفي، وسوف يتلاشى الدخان الأبيض القليل؛ سوفَ تُصدر قذيفة صغيرة صريرًا ضعيفًا، ولم يحدث شيء. لا شيء يمكن أن يحدث. كانت ثمة لمسة من الجنون في الإجراءات".
ستكون مقارنة انتحار خانات "طريق الحرير" بالسياسات الانتحارية الأميركية تمريناً معيباً. بادئ ذي بدء، لم يكن سكان آسيا الوسطى العتيقة يقترعون في انتخابات. كما لم يواجِه سكان واشنطن العاصمة المشهد المروع الذي استقبل سكانَ أكثر حضارات العالم تطوراً في صباح يوم 10 شباط (فبراير) 1258: حين اخترق الغزاة المغول أسوار بغداد، وذبحوا سكانها المدنيين، وأغرقوا الحكمة التي جُمعت وروكمَت عبر القرون -آلاف المخطوطات التي لا تقدر بثمن التي نُهبت من 36 مكتبة في المدينة- في نهر دجلة.
وقيل إن هذا العمل التخريبي التاريخي قد صبغ تيارات النهر بلون الحبر الأسود. لكن ثمة بعض العزاء في هذه القصة القاتمة الكئيبة. التاريخ لا يسلُك الطرق نفسها مرتين.
"أميركا عادت، مستعدة لقيادة العالم، لا لتتراجع منه". هكذا أعلن الرئيس المنتخب جوزيف آر بايدن جونيور بعد فوزه بالرئاسة في تشرين الثاني (نوفمبر)، ووعد بإعادة ضبط للعالم بعد سنوات من انحسار القوة الأميركية، والتي سبقت انعزالية السيد ترامب.
أما إذا كان هذا سيحدث، فشيء يخالطه الشك. فالأميركيون الذين اجتاحوا مبنى الكابيتول خلف أعلام القتال الكونفدرالية، على أمل قلب نتيجة انتخابات ديمقراطية، يسكنون واقعًا معرفياً تغذيه وسائل إعلام قبَلية، مغلقاً بإحكام مثل طائفة. والصدوع في الإدراك والأفهام تأخذ الإجماع إلى حتفه. وقد أظهر استطلاع للرأي أجري خلال الصيف أن ما يقرب من ثلث الناخبين الأميركيين سيقبلون "زعيمًا قويًا لا يضطر إلى أن يلقي بالاً للكونغرس والانتخابات".
وفي الأثناء، يسير العالم بلا توقف. وتنحدر الأرض شرقاً نحو قرن آسيوي. عبر آسيا الوسطى، تجولت في أماكن حولتها تماماً الطرق السريعة الجديدة، والسكك الحديدية، وخطوط الأنابيب وشبكات الاتصالات. ويرتبط جزء كبير من هذا البناء بنسخة الصين للقرن الحادي والعشرين من "طريق الحرير"، "مبادرة الحزام والطريق" التي تتكلف مليارات الدولارات، والتي وصفها الكثيرون بأنها أكثر مشاريع البنية التحتية طموحًا على سطح هذا الكوكب اليوم.
في كازاخستان، خرج عمال صينيون في معاطف نظيفة من غير سوء يحدقون بعجب بينما أقود حصان أمتعتي عبر حقل نفطهم الضخم. لا بد أنني قد بدوت لهم شبحًا رثاً مُشعثاً من الماضي البعيد؛ أو بعضاً من شيء سرابي استحضرته السهوب البرية من الخواء. وقد شعرت بأنني واحد. وأطعموني المثلجات.
انزلقت عبر سلسلة جبال كاراكورام إلى باكستان. هناك، تتعفّن الأطلال الأثرية التي لا تُنسى من سنوات مجد "طريق الحرير" على قمة تل على بعد 60 ميلاً جنوب شرقي إسلام أباد. وما مِن معالم أو شاخصات تشير إلى قلعة ناندانا. وقلة من الناس يذهبون إلى هناك. ولكن، كان هناك، في أوائل القرن الحادي عشر، حيث أصبح الباحث من آسيا الوسطى، البيروني، أول شخص يقيس -بدقة مذهلة- حجم الأرض. وحطّت حساباته، المستندة إلى علم مثلثات عبقري، على بعد 200 ميل من المحيط البالغ طوله 24.902 ميلًا لكوكبنا المشترك.
تسلقتُ جدار حصنٍ محطوم ونظرتُ شرقاً، قبل 17 شهرًا من التجوال المتمهل غير المتوقف عبر الهند، وهي أيضاً ديمقراطية أخرى تتجه، ملوحةً باليدين والساقين، نحو هاوية الشعبوية اليمينية. على ظهر موجة القومية الهندوسية، جرّمت ولاية الزيجات بين المواطنين الهندوس والمسلمين.
وفي المدى الأزرق البعيد لاحت الصين مترامية الأطراف. وقد بلغ ناتجها الاقتصادي في العام 2019، وفقًا لأحد التقارير، 67 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة. والفجوة لا تني تتقلص بين الصين والولايات المتحدة لأن الصين هي الاقتصاد الرئيسي الوحيد المتوقع أن يسجل نموًا اقتصاديًا في العام 2020، على الرغم من الوباء. وهناك، مشتبكاً مع نفسه في شجار في موقف شاحنات على تقاطع ما، بعيداً فوق الأفق، ثمة وطني المفقود.
سألت القرويين الذين قضوا حياتهم كلّها تحت أسوار قلعة ناندانا المتداعية عما إذا كانوا قد سمعوا أبداً عن البيروني. لم يفعلوا. بل إن أحداً لم يستطع حتى إن يسمّي الآثار التي وقفنا تحتها.
*Paul Salopek، صحفي حائز على جائزة بوليتزر مرتين، كاتب في "ناشيونال جيوغرافيك"، وهو يعكف الآن على تأليف كتاب عن رحلته حول العالم.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Shadows on the Silk Road: Finding omens of American decline on a long walk across Asia.