مشكلة الكهرباء في العراق (1): التحديات المالية والتقنية المستمرة

1689856154366610400
فني يصل الأسلاك من مولد كهرباء للقطاع الخاص لمن يستطيع الدفع في مدينة الصدر، بغداد، العراق - (أرشيفية)
نعوم ريدان – (معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى) 17 تموز (يوليو) 2023

لن يكون تنويع إمدادات الطاقة في العراق مجدياً إذا لم تتم إعادة تأهيل البنية التحتية للطاقة، وإذا كانت نسبة التكاليف إلى الإيرادات غير المتجانسة في وزارة الكهرباء غير مستدامة.اضافة اعلان
*   *   *
في 4 تموز (يوليو)، وفي ظل الارتفاع الشديد في درجات الحرارة صيفاً، أعلنت وزارة الكهرباء العراقية أن شبكة الكهرباء فقدت 5.000 ميغاواط من قدرتها على التوليد، مما أدى إلى زيادة ساعات انقطاع التيار الكهربائي. ونتجت هذه الخسارة بسبب انخفاض إمدادات الغاز الطبيعي الآتية من إيران، وهي مشكلة متكررة عولجت لاحقاً بعد أن عقد البلدان اتفاقاً لتبادل الطاقة (ستتم مناقشة ذلك في الجزء الثاني من هذا المرصد السياسي). ومع ذلك، حتى قبل هذه الخسارة، كان العراق يولد حوالي 24.000 ميغاواط، أي أقل بكثير من الـ34.000 ميغاواط اللازمة وفقًا للتقديرات لتلبية الطلب المحلي.
في الواقع، تكبّد قطاع الكهرباء العراقي أضراراً جسيمة خلال العقود القليلة الماضية بسبب الحرب وعوامل أخرى. وتستمر الفجوة بين العرض والطلب في الاتساع مع استمرار الخسائر الفنية والتجارية، التي تفاقمت بسبب التحديات المالية والفساد على مستوى عالٍ. ومع أن الحلول واضحة، إلا أنه لا يمكن تنفيذها من دون دعم سياسي، الأمر الذي لم يتوفر بعد. وركز القطاع مؤخراً على جهود جديدة لاحتجاز الغاز وتوليد الكهرباء، والتي تشمل المشاريع في إطار الصفقة الموقعة للتو بقيمة 27 مليار دولار مع شركة الطاقة "توتال إنرجيز" الفرنسية، التي رحبت بها إدارة بايدن. ومع ذلك، إذا لم تقرن السلطات هذه المشاريع بتحديثات مهمة في البنية التحتية، فلن تتمكن الشبكة من استيعاب الإمدادات الجديدة، وسوف تستمر الخسائر والسرقة. كما تبرز أيضاً حاجة ماسة إلى اعتماد نظام مناسب لتحصيل الفواتير من أجل وقف النزيف المالي. ولسوء الحظ، قد يتسبب التدخل السياسي المستمر في مشاريع الطاقة بالمزيد من التأخير في مثل هذه الخطط.
المشاكل المالية والهدر
في كانون الأول (ديسمبر) 2021، أفاد وزير المالية آنذاك، علي علاوي، في معرض حديثه عن الكهرباء بما يلي: "إذا لم يقم هذا القطاع بإصلاح نفسه خلال السنوات الثلاث إلى الخمس القادمة، فهناك احتمال أن يؤدي ذلك إلى تدمير ميزانية الحكومة"، مشيراً بذلك إلى اختلال التوازن المالي في وزارة الكهرباء، الأمر الذي يتطلب نفقات بمليارات الدولارات بينما تبقى إيرادات الوزارة ضئيلة. ووفقاً لـ"صندوق النقد الدولي"، بلغ إجمالي التكاليف التشغيلية المعلنة للوزارة في العام 2019 نحو 9.3 مليار دولار (11.0 تريليون دينار عراقي، أو 4 في المائة من "الناتج المحلي الإجمالي")، بينما كانت الإيرادات أقل من مليار دولار. وقد يُعزى انخفاض الإيرادات إلى تفشي السرقة، وعدم توفر نظام مناسب لتحصيل الفواتير أو غيرها من تدابير استرداد التكلفة، وتداعي شبكة النقل والتوزيع. وبشكل عام، تراوحت الخسائر الفنية والتجارية للقطاع بين 50 و60 في المائة تقريباً منذ العام 2019، وهي "من بين أعلى المستويات في العالم".
كما تشير مصادر عراقية إلى أن وزارة الكهرباء تعتمد بشكل كبير على الحكومة في عدة نواحٍ: لتسديد ثمن الوقود الذي توفره وزارة النفط، وتمويل الكهرباء التي تشتريها من مشاريع الاستلام والدفع التي يديرها منتجو الطاقة المستقلون، وشراء إمدادات الطاقة الإيرانية المتقلبة. وعلى سبيل المثال، أنفقت الوزارة مبلغ 2.78 مليار دولار لشراء الغاز الطبيعي الإيراني في العام 2021 وضعف هذا المبلغ في العام التالي، بينما بلغت تكلفة استيراد الكهرباء الإيرانية حوالي مليار دولار في العام 2021.
وفي غضون ذلك، يهدر العراق كميات هائلة من الغاز عن طريق الحرق خلال إنتاج النفط الخام. ووفقاً لـ"البنك الدولي"، يُعد العراق ثاني أكبر دولة في العالم بعد روسيا من ناحية حرق الغاز. وفي أيار (مايو)، صرح رئيس الوزراء، محمد شياع السوداني، بأن العراق يحرق 1.200 مليون قدم مكعب قياسي يومياً من الغاز بينما يستورد 1.000 مليون قدم مكعب قياسي في اليوم من إيران، مما يكلف الحكومة ما لا يقل عن 4 مليارات دولار سنوياً. وفضلاً عن ذلك، تشكل الانبعاثات الناتجة من حرق الغاز خطراً على العراقيين الذين يعيشون بالقرب من حقول النفط العملاقة، وتساهم أيضاً في تغير المناخ من خلال إطلاق ملايين الأطنان من ثاني أكسيد الكربون والميثان في الغلاف الجوي.
في الآونة الأخيرة، كثّف العراق جهوده لاحتجاز الغاز واستخدامه جزئياً في محطات توليد الكهرباء. كما سعى أيضاً إلى الحد من الواردات القادمة من إيران. وتشمل هذه المشاريع مبادرة من "شركة غاز البصرة" التي تديرها شركة "شل"، وكذلك مشروع نمو الغاز المتكامل، في إطار الاتفاق الذي وقعته بغداد مؤخراً مع شركة "توتال إنرجيز". وتلقى هذه المشاريع ترحيباً بالنظر إلى أن العراق هو من البلدان الأكثر عرضة لتغير المناخ.
ومع ذلك، إذا لم تكبح الحكومة التدخل السياسي وتتجنب خلافاتها التعاقدية المعتادة خلال مرحلة التنفيذ، فلن تساعد هذه المشاريع قطاع الكهرباء. ووفقاً لويم زويجنينبورغ من منظمة "باكس" الهولندية، اتخذ العراق بعض الخطوات للاستثمار في احتجاز الغاز، لكنّ "أي شركة دولية لن تستثمر المليارات في التكنولوجيا إذا كانت الحكومة غير مستقرة، ومع استمرار المخاطر الأمنية ومشاكل الفساد الخطيرة". ولخّص وزير الكهرباء العراقي السابق، لؤي الخطيب، جميع هذه المشاكل في تعليقات أدلى بها لكاتبة هذا المقال: "إذا استمر العراق في التعامل مع قطاع الكهرباء على هذا النحو، فسيكون من الصعب إصلاح قطاع الكهرباء مهما كانت قدرة توليد الكهرباء التي يكتسبها العراق، وبغض النظر عن كمية الوقود التي تؤمنها المصادر الحكومية".
العقوبات والتنازلات الأميركية
وفقاً للمتحدث باسم وزارة الكهرباء، أحمد موسى، يحتاج العراق إلى 55-60 مليون متر مكعب يومياً من الغاز الإيراني صيفاً، غير أنه لا يتلقى هذه الكمية. وعندما انخفضت الإمدادات بشكل حاد في 4 تموز (يوليو)، عزت الحكومة هذا الانخفاض إلى العقوبات الأميركية التي تمنع المعاملات المالية مع إيران، بينما نسبته طهران إلى مشاكل فنية ناجمة عن موجة الحر.
تم، بالطبع، تجديد الإعفاءات الأميركية التي تسمح للعراق بمواصلة استيراد إمدادات الطاقة من إيران مراراً وتكراراً منذ عهد ترامب، وبررتها جزئياً جهود العراق الرامية إلى تنويع مصادر الطاقة. وتشمل هذه الجهود مشاريع احتجاز الغاز المذكورة أعلاه، والاستثمارات في حقول الغاز، والمشروع المتأخر الذي يربط شبكة الكهرباء في العراق بشبكة "مجلس التعاون لدول الخليج العربية".
ووفقاً لمصدر أميركي، تُمنح هذه الإعفاءات بشكل أساسي لحماية "المصرف التجاري العراقي، بما أن الحكومة تسدد ثمن إمدادات الطاقة الإيرانية من خلال تحويل الأموال إلى حسابات إيرانية في المصرف التجاري العراقي". وغالباً ما يُلقى باللوم على واشنطن عن التخفيضات المتكررة في إمدادات الغاز الإيراني لأنها جمّدت الأموال الإيرانية في "المصرف التجاري العراقي"، على الرغم من أن المشاكل الفنية والطلب المحلي الإيراني تسببا في بعض الأحيان في انخفاض الإمدادات أيضاً. في 9 تموز (يوليو)، دعا "الإطار التنسيقي"، وهو التحالف السياسي الرئيسي الموالي لإيران في العراق، بغداد إلى مطالبة الولايات المتحدة بتحرير المدفوعات. وفي السابق، طلب العراق أحياناً، في إطار جهوده الرامية إلى تسديد ثمن إمدادات الطاقة لإيران، إذناً منفصلاً من الولايات المتحدة لتسديد مدفوعات معينة نيابة عن طهران فيما يتعلق بالأموال التي تدين بها إيران لدول أخرى، أو لأغراض مثل الحج والتعاملات الخاصة بالأنشطة الإنسانية. وكانت واشنطن مستعدة لإلغاء تجميد الأموال لهذه الأغراض شرط تسديد المدفوعات باليورو (لمنع إساءة استخدام العملة الأميركية) وتحويلها مباشرةً إلى الدائنين.
ولكن في نهاية المطاف، لم تعد بغداد قلقة بشأن مسألة الإعفاءات الأميركية لأنها تعتقد أن واشنطن ستواصل منحها مشتريات الطاقة. وكما قال موسى لكاتبة هذا المقال: "حالما تنتهي صلاحية الإعفاءات، يتم تمديدها لأنها ما تزال هناك حاجة لاستيراد الغاز. وبالإضافة إلى ذلك، أصبح الجانب الأميركي اليوم مقتنعاً بـ[جهود] العراق لتنويع مصادر طاقته". وفي الواقع، سيستمر العراق في الاعتماد على واردات الطاقة الإيرانية لسنوات.
ولكن، مرة أخرى لن تفيد مشاريع التنويع قطاع الكهرباء الأوسع نطاقاً أو تخفف من الهشاشة المالية للوزارة ما لم تحدّث بغداد أيضاً البنية التحتية ذات الصلة وتعتمد الإطار التنظيمي المناسب. وعلى سبيل المثال، تتضمن الصفقة الضخمة مع "توتال إنرجيز" تطوير محطة طاقة شمسية بسعة 1 غيغاواط، وهو إعلان واعد على الورق، إلا أن الشبكة الحالية لا تستطيع استيعاب إمدادات جديدة كبيرة، وقد تنشأ تحديات إضافية. وكما قال خبير الطاقة، هاري ستيبانيان، لكاتبة هذا المقال: "يحتاج العراق إلى جميع أنواع مصادر الطاقة المتجددة"، لكنّ عدم القدرة على التنبؤ المترافقة مع الخيارات المعتمدة على الأحوال الجوية قد يجعلها غير مناسبة للحالة "الهشة" الحالية للشبكة العراقية. وأوضح أنه في الوضع الراهن، يفقد العراق آلاف الميغاواط في كل مرة تقيد فيها إيران إمداداتها من الغاز، مما يجعل "انخفاض الجهد وانحراف التردد" مشاكل رئيسية في الشبكة.
الخطوات التالية
يعتقد البيت الأبيض أن مشاريع التنويع التي أعلنت عنها بغداد مؤخراً "ستعزز أمن الطاقة في العراق وموثوقية شبكة الكهرباء" وتساعد البلاد على تحقيق أهدافها المناخية. ومع ذلك، على المستويات الفنية والمالية والسياسية ما يزال أمام العراق شوط طويل ليقطعه قبل أن يقترب حتى من تحقيق أي من هذه الأهداف. ما يزال قطاع الكهرباء فيه  يحاول اللحاق بالركب بعد سنوات من الحرب الداخلية ضد تنظيم "داعش"، وهو نزاع أثرت تداعياته على أولويات بغداد وتسبب بتأجيل تنفيذ الكثير من الإصلاحات العاجلة. وما يزال القطاع يفتقر إلى نظام الفواتير المناسب، وتتم زيادة توليد الكهرباء من دون تحديثات مناسبة في الشبكة الكهربائية، ويستمر الفساد والتدخل السياسي في شؤون الطاقة بلا هوادة. ولا يمكن الاعتماد على قطاع الكهرباء من دون معالجة هذه المشاكل الكبرى، لا سيما في موسم الصيف المحفوف بالتحديات.

*نعوم ريدان: باحثة انضمت مؤخراً إلى معهد واشنطن كزميلة أقدم. عملت سابقاً كباحثة ومستشارة مستقلة لشؤون الطاقة في بغداد وبيروت.