أشخاص من متلازمة داون يتركون بصمات في سوق العمل

01
01
ربى الرياحي بشغف كبير، تتنقل ريف (25 عاما) بين الزبائن في أحد محال الألبسة الذي تعمل فيه منذ أشهر عدة، ورغم بعض الصعوبات، إلا أنها تصر على أن تكون قريبة من الناس تتواصل معهم بحب وحماس وهم أيضا يبادلونها الاحترام نفسه. لم تقبل بأن تنعزل أو أن تستسلم للفراغ والأحكام المسبقة لكونها من متلازمة داون، بل قررت بمساعدة والدتها أن تكون قوية حالمة تبحث عن النجاح في كل ما تفعله. أنصفت نفسها، لم تهملها أو ترفضها، تعلمت جيدا كيف تكون مستقلة تعتمد على ما لديها من إمكانات وإرادة. استطاعت ريف، بعزيمتها، أن تحطم جدار الخوف وتكون شخصا منتجا فعالا في المجتمع، عملت في أكثر من مكان، وهذا بالطبع زادها خبرة ومكنها من أن تثق بنفسها أكثر، فهي بطبيعتها شخصية مسؤولة جدا ومنظمة ودقيقة تحرص على أن تؤدي عملها على أكمل وجه وتحب الاحتكاك بالناس، اجتماعية لأقصى حد، همها الأكبر أن تجد الأمان والإنصاف وأن تحظى بالتقبل دائما حتى تتمكن من تحقيق ذاتها والوصول إلى حياة كريمة فيها الكثير من الحب والاحترام والاستقلالية. يتواجد اليوم أشخاص من متلازمة داون في المحال والمطاعم والفنادق وغيرها من الأماكن الأخرى التي بدأت تحتضنهم تدريجيا وتتقبلهم بحب، بعد أن كانت الصورة السائدة اجتماعيا بعدهم عن مظاهر الحياة العامة وغياب التقبل. السنوات الأخيرة الماضية، شهدت تحولا كبيرا في تغير نظرة المجتمع تجاه هذه الفئة، والسماح لهم بتقديم أنفسهم بعيدا عن الأفكار المشوهة والثقافة السطحية التي تنتقص منهم واتهامهم بعدم الفهم وربما العجز أيضا عن القيام بأبسط الأمور. ويعود هذا الاعتقاد الخاطئ في الدرجة الأولى إلى قلة الوعي بحقيقة هؤلاء الأشخاص، فأقصى ما يحتاجونه هو التقرب منهم واحترامهم وتمكينهم من أخذ الفرص ليكون بمقدورهم الكشف عن طاقاتهم. لذا لا بد من تشجيعهم على العمل وتعميم الفكرة باعتبارها حقا مشروعا يجعل واقعهم أفضل ويزيدهم ثقة وقوة وتصميما. وتبين خبيرة علم الاجتماع فاديا إبراهيم، أن الأشخاص ذوي الإعاقة أو ذوي الاعتلال أو الأمراض والتشوهات الجسدية والنفسية والعقلية، عانوا لعقود طويلة في مجتمعاتنا من الوصم الاجتماعي والإنساني والظلم والتهميش والتقصير والنظرة الدونية والمختلفة لهؤلاء الأشخاص عن بقية أفراد المجتمع، كما عانى أهالي وعائلات هؤلاء الأفراد أيضاً من نظرات وضغوطات نفسية واجتماعية. ولكن، مع تطور البشرية واتساع مدارك الإنسان ووعيه والاتجاه العالمي نحو احترام حقوق الانسان وكرامته، اختلفت النظرة السلبية وأصبحت هذه الفئة من المجتمع تلقى اهتماما واحتراما ورعاية أفضل وأكبر. وساعدت الاتفاقيات الدولية للأشخاص ذوي الإعاقة وتوقيع أغلب الدول عليها والالتزام ببنودها على تغير الأفكار والمعلومات والسلوكيات الاجتماعية الخاصة بهذه الفئة، وزادت من مشاركتهم ودمجهم في المجتمع ومساواتهم في الفرص مع الآخرين وإعطائهم حقوقهم في التعليم والعمل والرعاية. هذه الاتفاقيات ألزمت الدول والحكومات على تبني استراتجيات تحقق النموذج الاجتماعي لهؤلاء الأشخاص القائم على المشاركة والتمكين وعدم التمييز. وبدورها، بدأت الدول بإنشاء المراكز والمؤسسات والهيئات الخاصة بهذه الفئة، وأخذت على عاتقها نشر ثقافة تحترم هذه الفئة وتسلط الضوء على حقوقها وقضاياها من خلال الفعاليات والنشاطات والمؤتمرات والبرامج وحملات التوعية عبر الانترنت ووسائل الإعلام التي ساعدت بدورها على تغيير النظرة وتسليط الضوء على بعض النماذج الناجحة. وعبر مواقع التواصل الاجتماعي، تنتشر فيديوهات وأخبار عن أشخاص من متلازمة داون شقوا طريقهم في الحياة ويمارسون بعض المهن والوظائف مثلهم مثل أقرانهم ويلاقون الدعم والمحبة والاحترام من الوسط المهني والوسط المجتمعي، حتى أنه تم استبدال مسمى هذا المرض من متلازمة داون الى متلازمة الحب، نظراً للطف هؤلاء الأشخاص ومحبتهم للجميع. ووفق إبراهيم، فإن واقع وحقيقة علمية أكيدة أن النظرة المجتمعية للأشخاص ذوي الإعاقة أصبحت أكثر إيجابية وأكثر احتراماً وقبولاً في المجتمع، ومع هذا يجب الاستمرار في العمل من أجل تحسين أوضاعهم وإدماجهم أكثر في المجتمع من خلال القوانين والتشريعات التي تضمن لهم التميز الإيجابي، أيضاً العمل على الناحية التربوية لقبول هذه الفئة ودعمها وعدم النظر إليها نظرة دونية أو حتى نظرة شفقة من خلال التربية داخل الأسرة والتربية في المؤسسات التعليمية والمدنية. وتبين إبراهيم أن تقديم الدعم النفسي والاجتماعي ليس فقط لهؤلاء الأفراد، بل أيضاً لأهاليهم ولأسرهم لأنهم يبذلون مجهودا مضاعفا في تربيتهم ورعايتهم. ومن الجانب العملي، يجب بناء قدرات هؤلاء الأشخاص وتدريبهم وزيادة المشاريع والمبادرات من الجهات الحكومية ومؤسسات المجتمع المدني لدعمهم وتمكينهم وتعزيز مهاراتهم وقدراتهم العملية وتدريبهم على المهن المختلفة ليجدوا فرصا حقيقية ومناسبة لهم في سوق العمل مثلهم مثل باقي الأشخاص. مسؤولة عن برنامج التشغيل في جمعية سنا علياء جمعة، تبين في حديثها لـ”الغد”، أن الجمعية أطلقت مشروع التشغيل للأشخاص ذوي الإعاقة الذهنية ومتلازمة داون في أواخر 2015 بالتعاون مع المجلس الأعلى. والهدف من البرنامج هو دمج الأشخاص ذوي الإعاقة الذهنية في سوق العمل من خلال خدمة مدرب العمل، ويتم ذلك عن طريق مرافقة هذا الشخص للمتقدم للوظيفة والعمل على تدريبه في بيئة العمل نفسها بعد التقدم بطلب توظيف للجمعية. ويأتي دور القائمين على برنامج التشغيل بعمل تقييم أولي للشخص من ذوي الإعاقة الذهنية، ويكون ذلك بجمع معلومات شاملة عن مهاراته الشخصية والتأهيلية والمهنية والاجتماعية والاطلاع على ما يحب ويكره والتأكد من القدرات التي يمتلكها. وتقول جمعة إنه يكون لدى الجمعية مرجعية واضحة عن الشخص من ذوي الإعاقة الذهنية، وبالتالي يصبح من السهل إجراء مطابقة وظيفية بين قدرات الشخص ومتطلبات العمل ليأخذ مكانه المناسب، إضافة إلى تقييم بيئة العمل ومعرفة ما إذا كانت تتواءم ووضع الشخص أم أن هناك عوائق من الصعب تذليلها وتجاوزها. وبعد المشاورات مع صاحب العمل وإقناعه بإمكانيات الشخص من ذوي الإعاقة الذهنية، يتم إخضاعه لفترة تدريب مكثف بمساعدة مدرب العمل الذي يقوم بدوره بتعريف هذا الشخص بمهمته وتحليلها إلى أجزاء حتى يتمكن من استيعابها وإتقانها، إضافة إلى تزويده بدلائل وأدوات مساندة له تجعل مهمته أسهل ويكون قادرا على تأدية وظيفته بكل راحة وأمان. وبعد انتهاء تلك الفترة، يبدأ المدرب بتخفيف الدعم تدريجيا عن الشخص من ذوي الإعاقة والسماح له بالاعتماد على نفسه داخل بيئة العمل، بحسب علياء، لافتة إلى أنهم في هذه الفترة يعملون كجمعية على تأسيس دعم طبيعي للشخص من خلال توعية زملاء العمل وتمكينهم من التعامل مع الشخص بشكل مناسب. وحتى يكون الدعم في مكان العمل طبيعيا، يقوم المدرب باختيار شخص أو شخصين من الزملاء ليتعاونا مع ذلك الموظف ويكونا على استعداد تام لتقديم المساعدة له في أي أمر يحتاجه. وتتابع “تستمر فترة التدريب من شهر إلى ثلاثة أشهر، ومن ثم يبدأ المدرب بالانسحاب بشكل تدريجي، لكن مع إبقاء الوضع تحت المتابعة والمراقبة، وذلك من خلال الزيارات الدورية أو حتى المكالمات الهاتفية مع أحد الأطراف القريبين من الشخص من ذوي الإعاقة كالأهل مثلا أو زملاء العمل أو صاحب العمل أو حتى الشخص نفسه، وتكون المتابعة بالاستفسار عن أجواء العمل وإلى أي درجة هي مستقرة ومريحة، وهل هناك تحديات تواجه هذا الشخص”. وتبين أن للجمعية حق التدخل في أي وقت لمعالجة أي تحد قد يطرأ على الوظيفة. ويبلغ عدد المستفيدين من برنامج التشغيل ما بين 150 و160 شخصا تقريبا. كما بلغ عدد المتقدمين للعمل من بداية المشروع 270 شخصا بقي منهم حتى اليوم 161 شخصا من ذوي الإعاقة الذهنية، أما الأشخاص من متلازمة داون فيبلغ عددهم في سوق العمل 52 شخصا. وعن تقبل أرباب العمل لفكرة تشغيل الأشخاص من ذوي الإعاقة الذهنية، ترى علياء أن الصعوبة الحقيقية والكبيرة كانت في بداية البرنامج، مؤكدة أنه لم يكن هناك اقتناع بقدرات هؤلاء الأشخاص، لذا كانت التحديات أكبر، لكنها تعود وتؤكد أن الوضع اختلف اليوم، وخاصة بعد وجود قصص نجاح تمكنت من الظهور إلى النور واستطاع أصحابها إثبات أنفسهم سواء في المصانع أو الفنادق أو المطاعم. ووفق علياء، هذا كله ساعد الجمعية وسهل من مهمتها في تأمين وظائف مناسبة لهذه الفئة، و”استنادنا إلى قصص النجاح والتحدث عن نماذج من أرض الواقع كان له تأثير كبير في رفع مستوى تقبل أرباب العمل للفكرة وتجريبها، وخاصة أنهم لمسوا إنتاجية هؤلاء الأشخاص حقيقة وتمكنوا من إتقان وظائفهم”. أما الاختصاصية النفسية الدكتورة سلام عاشور، فتلفت إلى أن وجود الأشخاص من متلازمة داون والأشخاص من ذوي الإعاقة بشكل عام في سوق العمل وتعميم تلك الصورة الإيجابية، هو أمر في غاية الأهمية، لذا من المهم تهيئة المجتمع، بحيث يكون بمقدور شتى الفئات التعامل مع ذوي الإعاقة بطريقة فيها الكثير من الإنسانية والاحترام، فهم بحاجة فقط لمن يفهمهم ويقدر أن لهم احتياجات مختلفة، لكنهم في الوقت نفسه، كغيرهم، أشخاص لديهم كل الإمكانات ليندمجوا في المجتمع ويكونوا مستقلين ماديا من خلال توفير الوظائف المناسبة لهم. ووفق رأي عاشور، فإن تعرض الأشخاص من ذوي الإعاقة لسوء معاملة سواء بالرفض أو التنمر يزيد حتما من عزلتهم وضياعهم ويحملهم الكثير من الأعباء النفسية التي تجعلهم يفقدون الثقة بمن حولهم، وبالتالي يعطون للمجتمع فرصة بإطلاق أحكام مسبقة عليهم بأنهم عدوانيون يميلون للعزلة، وهذا بالطبع سبب في زيادة خوف الناس وتكوين أفكار مغلوطة عنهم تحول بينهم وبين انخراطهم في المجتمع. وحتى تتغير الثقافة، تبين عاشور أن الخطوة الأولى هي التحدث عنهم في وسائل الإعلام المختلفة وإبراز صورتهم الحقيقية وعرض مسرحيات تتناول جوانب من حياتهم ليكونوا أقرب للمجتمع ويكون بمقدور الجميع فهمهم، وأيضا ستتشكل فكرة واضحة عنهم لدى الكبار والصغار على حد سواء. وهذا تماما ما بدأنا نلحظه في الفترة الأخيرة، فقد أصبح وجودهم، وخاصة في أماكن العمل، أكثر تقبلا، الأمر الذي سينعكس إيجابا على الدولة ككل إذا تم تمكين هذه الفئة من الانخراط مهنيا واجتماعيا بصورته الحقيقية وبعيدا عن العطف، أن يأخذ هؤلاء الأشخاص أماكنهم في سوق العمل بشكل طبيعي وأن يتساووا مع غيرهم في الفرص. وأخيرا، تؤكد عاشور أن وجود الأشخاص من ذوي الإعاقة في بيئة العمل وإشراكهم في عجلة التنمية الاقتصادية أمر ضروري جدا ويعكس مدى تقدم الدولة أولا، ويساعد هؤلاء الأشخاص على الاستقلالية والاكتفاء، بل في أحيان أخرى، وخاصة إذا كانوا متعلمين، سيعيلون أسرهم بدلا من أن يكونوا عبئا عليهم، وهذا كله سيرفع من معنوياتهم وسيجعلهم أكثر ثقة بأنفسهم وبما لديهم من إمكانات. اقرأ أيضاً: اضافة اعلان