الحياة اليومية في بيروت: السياسة والسحر

   من يسير في شوارع العاصمة اللبنانية لا يلحظ شيئا غريبا. صحيح ان علامات الراحة و"البحبوحة" والاستهلاك ليست على ما كانت عليه قبل عام. فللأسباب السياسية والاقتصادية المعروفة، لم يمتلئ من أسرّة الفنادق، في بيروت كما الجبل، الا 30 في المئة، بينما بلغت النسبة 100 في المائة في الصيف الماضي. كذلك يترك الحصار البري الذي فرضته دمشق ظله الثقيل على الحياة العامة، خصوصا انه يؤدي الى خسارة ما قيمته 300 الف دولار يوميا، وتدمير 50 ألف فرصة عمل، وهو ما يصعب ان يتحمله اقتصاد مثقل بالدين كالاقتصاد اللبناني.

اضافة اعلان

     مع هذا، فنادرة جدا هي العلامات التي تذكر بمرور البلد بمرحلة انتقالية معقدة وغامضة، او بانسحاب القوات السورية بعد عقد ونصف العقد على تحكّمها، او بنشأة طاقم سياسي حاكم مختلف عن الطاقم السابق. والشيء نفسه يلمس في الليل، إذ يتكاثر المتجمعون في مقاهي "وسط المدينة"، أو"الداون تاون" كما يقول البيروتيون، مثلما تحتشد الرؤوس في مطاعم ومقاه ونواد ليلية تتوزع على سائر الاحياء والمناطق البيروتية.

      بيد ان هذا القدر من الحياة الطبيعية يحمل على التذكير بأفلام الرعب. فالمنطق الضمني للأفلام المذكورة هو حصول زلزال او فيضان مدمر فيما ظاهر الامور عادي جدا: الراشدون يذهبون الى اعمالهم، والاطفال يقصدون مدارسهم، والاصدقاء يلتقون في المقاهي، وهكذا دواليك. ذاك انه في مقابل الظن بوجود انتظام اجتماعي، وسيطرة بشرية على مجريات الحياة، لا يلبث ان يظهر عنصر هيولي لا سيطرة لأحد عليه.

      وبالمعنى هذا، تلوح عادية الحياة في بيروت وكأنها تنتظر "معجز" ما. بيد ان الحدث المتوقع هنا ليس فعلا من افعال الطبيعة، بل فعلا من افعال الاغتيال يقدم عليه بشر غامضون. فبعد مصرع رفيق الحريري وباسل فليحان ورفاقهما، وسمير قصير وجورج حاوي، ومحاولتي اغتيال مروان حمادة والياس المر، بات مقتل احدهم الحدث المرعب الذي يقطع عادية الحياة وطبيعتها. وفي أجواء كهذه، تتكاثر الشائعات، وتروج التقديرات و"الترشيحات" للاغتيال. وقد سبق ان تهامس البعض بوجود "قوائم" للقتل، تضم مرة 10 أشخاص، ومرة أخرى 18 او 20، وهكذا دواليك. ومن اجل منح هذه القوائم بعض الصدقية، ظهر من يعزوها الى السفارة الاميركية والى مصادر دبلوماسية غربية اخرى. لكن ما هو اخطر من ذلك ان غموض المرتكب، والمرتكب المحتمل للجريمة المحتملة، يجعل ردة الفعل عابرة ومسطحة. فلدى حصول عملية الاغتيال، يعبر الجميع عن خوفهم وقرفهم واستنكارهم بصوت واحد في وقت واحد، غير ان غموض القاتل يعفيهم من مسؤولياتهم، اذ لا يعرفون تماما من الذي ينبغي ان تتوجه ضده طاقة الاعتراض المدني والسياسي.

     وعلى النحو هذا يعود الجميع الى استرخائهم، فيما يتراجع التحليل الرصين ليصبح أقرب الى فك الأحاجي والألغاز، وهو ما تختصره الاسئلة المتبادلة بين اللبنانيين: من الذي يفعلها يا تُرى؟ او من الذي سيكون الشخص التالي؟

     لكن هذا التفرج -العاجز- على الموت، والعاجز عن التأثير فيه، يجد ما يغذيه في الحياة السياسية نفسها، هي التي تغدو أشد استعصاء على الادراك والتحليل. فقد آلت الامور بعد تظاهرة 14 آذار الماضي الى اختلاط والتباس يصعب تأويلهما في صورة عاقلة وعقلانية؛ فلم يعد واضحا تماما كيف انتقل حلفاء الامس الى خصوم اليوم وربما الغد. وبعد معاناة مديدة نسبيا لتشكيل حكومة جديدة، اذا بالحكومة العتيدة تتشكل ضامة في داخلها عددا كبيرا من التناقضات! وكان السجال الغريب حول "الثلث المعطل" بالغ الدلالة، فكأن المطلوب من الحكومة ان تحمل بذور نفيها وتعطيلها في ذاتها، بأن تنطوي على كل ما يمنعها من الحركة والفعل! واذ تشكل الوزارة المنتظرة برئاسة فؤاد السنيورة، جاء تشكيلها يشي بحدود الهرطقة الديمقراطية في بلد طائفي: فقد تبين ان عدم تمثيل طرف سياسي من الاطراف (والحكومة الديمقراطية تعريفا لا تضم كل الاطراف)، قابل للتفسير على انه عزل لطائفة من الطوائف!

     وسط هذه المعمعة جاء اعلان رئيس لجنة التحقيق الدولية في جريمة اغتيال الرئيس الحريري. فقد اعتبر ديتليف ميليس، من خلال صحيفة "لو فيغارو" الفرنسية، ان قائد الحرس الجمهوري العميد مصطفى حمدان، المقرب جدا من الرئيس اميل لحود، مشتبه به في التحقيقات التي يجريها. وكان طبيعيا ان يرخي هذا الكشف بظله على المداولات الرسمية وغير الرسمية، كما على الاستعدادات لالتقاط الصورة التذكارية لأفراد الحكومة مع رئيس الجمهورية الممثل في تلك الحكومة؛ اذ كيف لهذا الكائن الوليد لتوه ان يعيش وان يتعايش فيه اهل الضحية ومتهمون بالجريمة؟!

     وحتى اللحظة، لم يتراجع اثر العناصر التي تشكل خلفية المشهد السوريالي كما استجدت وتراكمت في الاشهر الاخيرة. فقد امتلكت هذه العناصر طاقة ملحوظة على تسبيب الاستغراب، كالمواقف المتقلبة للوزير وليد جنبلاط، او تسبيب الاثارة، كعودة ميشال عون الذي وصف بـ"تسونامي"، ومن ثم انتصاراته الانتخابية المفاجئة، وذلك من غير ان ننسى الميل الى جمع الماء والنار من خلال توزير احد نواب حزب الله، على رغم معرفة الجميع بإصرار الولايات المتحدة(وفرنسا) على بتّ موضوع القرار 1559، عاجلا او آجلا. وأسوأ من كل ما عداه، ذاك الاشتباك عند اعلان العفو عن قائد "القوات اللبنانية" سمير جعجع، بين الشياح وعين الرمانة. ولأن هاتين الضاحيتين، الشيعية والمسيحية، ابتدأتا حرب 1975 التي استطالت، حظي ذاك الاشتباك بطاقة رمزية مقلقة جدا، فانتاب الجميع قدرا من التهيب، الا انهم هنا ايضا انكفأوا عاجزين عن التفسير والتعقل، وتاليا عن التدخل. وهكذا، ضاعت الفوارق بين السحر الواقعي والواقع المسحور في لبنان.

كاتب لبناني مقيم في لندن