فلسطين أيّام زمان

أثارت الصّور التي نشرتها المجنّدة الصّهيونية (عيدين أفرجيل) على الفيس بوك في الأيام القليلة الماضية حفيظتي، وهي تلك الصّور التي تظهر فيها المجنّدة بكامل سرورها، وإلى جانبها بعض المعتقَلين الفلسطينيين، وهم في أوضاع مزرية. لكأنّها كانت تقول للعالم، هؤلاء الفلسطينيون هم ليسوا بإرهابيين فقط، وإنّما هم منحطّون وأشبه ما يكونون بالحيوانات!

طبعاً ما قامت به المجنّدة الصهيونية هو قطرة من بحر الحقد الأعمى الصّهيوني، ومن الدّعاية المسمومة التي تبثّها الصهيونية حول الشعب العربي الفلسطيني، ذلك الشعب الحضاري الذي قدّم منذ آلاف السنوات وما يزال يقدّم مساهمته الرفيعة للحضارة البشرية. في البداية أطلقت الصهيونية أكذوبتها أنّ اليهود وهم شعب بلا أرض قد جاؤوا إلى فلسطين كي يستوطنوا أرضاً بلا شعب!! ومنذ ذلك الوقت عمل الصهاينة على تنفيذ خطّتهم على خطّين متوازيين: الخط الأوّل تمثّل بسرقة الأرض الفلسطينية وانتزاعها بالقوّة، أمّا الخط الثاني فتمثّل بسرقة الهويّة الحضاريّة للإنسان الفلسطيني. على مستوى الخطّ الأوّل نرى أنّ مسلسل الحروب والمجازر الصهيونية ما يزال قائماً بحقّ الشعب الفلسطيني.

وعلى مستوى الخطّ الثاني نرى أنّ الصهيونية العالمية تجهد نفسها باستمرار لتقديم صورة بشعة للإنسان الفلسطيني، فقد استطاعت على سبيل المثال أن تجعل المرادف لكلمة الكنعاني أو الفلسطيني في الإنسكلوبيديا البريطانية والأميركية هو الحقير المتشرّد الذّليل الهائم على وجهه.

الصّورة الحقيقية لم تكن على هذا النّحو، ففلسطين كانت بلداً متطوّراً ومزدهراً، ومتواصلاً مع محيطه العربي والإنساني، تشهد على ذلك حركة الصّحافة النشطة في المراكز الرئيسة: يافا وحيفا والقدس. ففي يافا وحدها كان هنالك حتى عام النكبة ما يقرب من أربعين مطبوعة ما بين يومية وأسبوعية وشهرية وفصلية، الترجمة كانت متطوّرة، المسرح، التّصوير.

أمّا على صعيد الغناء فقد كانت مسارح يافا والقدس وحيفا وعكّا، هي الأمكنة التي بواسطتها يتمّ إشهار المطربين العرب، وقد غنّى على هذه المسارح كلّ من محمد عبد الوهّاب، وفريد الأطرش، وأسمهان، وأم كلثوم التي اكتسبت لقبها المعروف (كوكب الشرق) من خلال إحدى الحفلات التي أحيتها في حيفا، ففي زيارة مبكّرة لها إلى فلسطين العام 1928، وبعد أن غنّت في مدينة القدس استقلّت القطار ذاهبةً إلى حيفا، وهناك غنّت على مسرح الانشراح المعروف قبل النكبة. أثناء الاستراحة صعدت المسرح سيّدة حيفاوية تُدعى "أم فؤاد"، لتقول لها أنتِ كوكب الشّرق بأكمله، ومن يومها واسم أم كلثوم مقترن بهذا اللقب.

أمّا على مستوى الموسيقى فيمكن الحديث عن أسماء كثيرة جدّاً، وعن تلك الظاهرة الموسيقية التي عُرِفت بموسيقيّي القدس، ومنهم: يوسف خاشو، سلفادور ويسرى عرنيطة، هالة نسيبة، سهيل الخوري، أوغسطين لاما، إلياس فزع، فؤاد ملص. هؤلاء الموسيقيّون تركوا ظلالهم وبصماتهم في الموسيقى العربية والعالمية.

اضافة اعلان

وليس أدلّ على المستوى اللائق الذي وصلت إليه الحالة الموسيقية في فلسطين من كلمات الأديبة الكبيرة (نجوى قعوار) التي تصف في مذكّراتها، إحدى الحفلات الموسيقية المقامة في مبنى (المسكوبية) في القدس في أواخر الثلاثينيات من القرن الماضي: "ولن أنسى الأوركسترا التي سمعت منها مقطوعة "بوليرو" لأوّل مرّة تُعزَف في ظلّ أشجار المسكوبية، كانت الأوركسترا جالسة في شكل نصف دائري، والمايسترو يواجهها، وعندما أعطى المايسترو الإشارة وبدأت الأنغام تُعزَف، أحسستُ بفرحٍ يشابه النّشوة". لكنّ الكاتبة لن تنسى أن تتأسّى على الوضع الذي آلت إليه المسكوبية: "ومن هنا كان حزني وأساي أنّ هذا المكان غدا سجناً ومكاناً لتعذيب الفلسطينيين"!

[email protected]