الحداثة المتقهقرة

   يبحث فيصل دراج في كتابه الذي صدر مؤخرا بعنوان "الحداثة المتقهقرة" عن مخرج للأزمة القائمة في سؤال العرب الملح عن النهضة والإصلاح، ويجد في العود إلى طه حسين مصدرا للنقاش المتواصل الذي لم يتوقف ويبدو أنه لم يتقدم أو لعله كما يوحي عنوان الكتاب يتقدم إلى الخلف.

اضافة اعلان

   وفي حواره مع الثقافة العربية الحديثة يتوجه فيصل دراج إلى اسمين، طه حسين، الذي مازال على الرغم من الظلام المسيطر يعثر على قراء وتلاميذ، وأدونيس الذي يلقي بأسئلة متمردة كثيرة، متضحة متسقة حينا، وقليلة الوضوح والاتساق أحيانا أخرى.

   طه حسين مؤرخ الأدب الذي شاء أن يؤرخ لغير الأدب، والناقد الأدبي الذي نقد مجتمع النص قبل النص، والأستاذ الجامعي الذي رأى في إصلاح الجامعة إصلاحا للمجتمع كله، فكان رجل سياسة يعمل في حقل الثقافة ورجل ثقافة يطمح إلى بناء سياسة جديدة، وأدونيس الذي واجه النزعات السياسية والأيدولوجية اليمينية واليسارية في الخمسينيات والستينيات بالتمرد، ووجدها تقدم لغة واحدة.

   يعبر طه حسين عن مشروعه الثقافي في كتبه الشهيرة: الأدب الجاهلي، والدراسات الإسلامية، ومستقبل الثقافة في مصر مقدما ثلاثة وجوه لمشروعه: جانب ثقافي ينحو نحو التطور والاكتمال بحرية الفكر وتاريخيته، ومعالجة التراث بالفصل بين قراءة مستظهرة وقراءة فاعلة، والحداثة الاجتماعية.

   وقد يكون كتاب مستقبل الثقافة في مصر تتويجا للمشروع الثقافي لطه حسين، فقد وضعه وهو في الخمسين من عمره، وقدم فيه إشكاليات وأسئلة تقوم على كيف تنشئ السلطة التقليدية مدرسة حديثة غاياتها تنقض التقليدي في السلطة والمجتمع؟ ولماذا تستولد السلطة الآمنة شعبا متعلما يبدد أمانها ويختلس منها بعض الأمان؟ من أين تولد الدولة التي تولد منها مدرسة جديدة تعطي المجتمع ولادة جديدة؟

   يجيب طه حسين أن ذلك يتأتى من العقل الإنساني الذي وزع على البشر بحظوظ متساوية، ومن التجارب الحضارية المتقدمة التي تقتبسها الشعوب المختلفة، بلا ضلال أو تحرج، بسبب وحدة الغايات والأهداف الإنسانية.

   وربما يكون أدونيس رائدا منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي في إشاعة مصطلح الحداثة، بعد أن أعطى الجزء الثالث من عمله "الثابت والمتحول" عنوانا محددا هو صدمة الحداثة. وإذا كان طه حسين قد بدأ بنقد الشعر الجاهلي منتهيا إلى التشكيك بتاريخ الأدب مطالبا بإعادة كتابة هذا التاريخ، فإن أدونيس قد انطلق من تقليدية الشعر العربي المعاصر ليصل منها إلى ثقافة عربية تقليدية متقادمة هي أصل الوعي التقليدي في الحاضر والماضي معا.

   وبعد أن قرأ الموروث الشعري العربي، وخرج من هذه القراءة بديوان الشعر العربي الذي يضم أجمل وأغنى ما كتبه الشعراء العرب منذ الجاهلية وحتى الحرب العالمية الأولى، اعتمادا على هذه القراءة انتهى إلى خلاصة مفادها أن الاتباعية توجه الذائقة العربية، وتسود النظرة العربية للشعر، ثم رصد هذه الاتباعية في كتابه "الثابت والمتحول" في حقول غير شعرية تتضمن الثقافة واللغة والسياسة والدين.

   وواقع الأمر أن أدونيس برغم دعوته الصادقة إلى الحداثة فإنه ينغلق في إشكالية تراثية عنوانها الأكبر كيف نحارب التراث بالتراث نفسه؟ وكيف نتحرر من التراث اعتمادا على التراث التحرري القديم؟ فيمكن العثور على إسلام حداثي بجانب الإسلام السلطوي (مقابل دعوة طه حسين إلى الخروج من علاقة الدين بالدولة والاندراج في الأزمنة الحديثة منظورا وقيما وسياسة وثقافة) وبهذا المعنى يكون أدونيس قد أنجز فكرتين أساسيتين، تقول الأولى منهما يجب تحرير الفكر العربي من التقليد، وتقول ثانيتهما إن سطوة التقليد لا تقاوم ولا سبيل إلى كسرها.