العالم الذي نعيش فيه (4) عالم تقني: أهلاً بكم في الثورة الرقمية

صوفيا، الإنسانة الآلية التي تحمل الجنسية السعودية، تتفاعل خلال معرض الابتكار في كاتماندو  نيبال في 21 آذار (مارس) 2018 - (أرشيفية)
صوفيا، الإنسانة الآلية التي تحمل الجنسية السعودية، تتفاعل خلال معرض الابتكار في كاتماندو نيبال في 21 آذار (مارس) 2018 - (أرشيفية)

كيفن دروم – (فورين أفيرز) عدد تموز (يوليو)/ آب (أغسطس) 2018

ترجمة: علاء الدين أبو زينة

التنبؤ بالمستقبل مرتقى صعب. لذلك دعونا نبدأ بتفسير الماضي. ما هي أفضل عدسة لتقييم مسار تاريخ العالم خلال القرن التاسع عشر؟ كبداية، شكل ذلك القرن فجر الديمقراطية الليبرالية. كان الفرنسيون قد أعدموا ملكهم بالمقصلة مسبقاً، كما أسست حفنة من عشاق جون لوك عبر المحيط الأطلسي جمهورية وليدة. وفي المملكة المتحدة، كان الفيلسوف جون ستيوارت ميل يدافع باقتدار عن الديمقراطية الليبرالية وكرامة الإنسان. وبدأ الأمر يبدو وكأن النظام الملكي ترجل عن ذروته . ثم كانت ثورة رأسمالية السوق الحرة، ونجومية الاقتصاديين من نوع توماس مالتوس وديفيد ريكاردو. وكان كارل ماركس يجلب الاقتصاد إلى طبقة البروليتاريا.
كما شكل القرن التاسع عشر أيضا ذروة الامبراطورية والاستعمار الغربيين. وكان بداية حقبة الحرب الشاملة، وبداية انحدار الدين كقوة سياسية واستبداله بصعود القومية. كما كان أيضا، إذا دقق المرء بما يكفي من العناية، بداية حقبة المساواة الإنسانية. فقد طالبت النساء بحقوق متساوية في سينيكا فولز ونيوروك، وأصبحت نيوزيلندا أول بلد يمنحهن حق التصويت. وجرمت المملكة المتحدة تجارة الرقيق، وحررت الولايات المتحدة عبيدها، وحررت روسيا أقنانها.
وإذن: كانت الديمقراطية، والرأسمالية، والاستعمار، والحرب الحديثة، والقومية، والمساواة الإنسانية. وكلها عناصر هائلة في تداعياتها، وكلها شكلت حافزا لإنتاج الآلاف من الكتب.
ولم يكُن أيها مهما أيضا. فعندما ننظر إلى الوراء اليوم، نجد أن أهم سمة جيوسياسية للقرن التاسع عشر واضحة تمام الوضوح: كانت حقبة "الثورة الصناعية". ومن دون هذه الثورة، ما كان ليتسنى صعود الطبقة الوسطى ولا وجود ضغط حقيقي من أجل الديمقراطية. وما كانت لتظهر ثورة الرأسمالية لأن الدول الزراعية لا تحتاج إلى مثلها. وما كان الاستعمار واسع النطاق ليحدث، لأن هناك حداً واضحاً لشهية الاقتصادات غير الصناعية للمواد الخام. وما كانت الحرب الشاملة لتندلع من دون وجود الصُّلب الرخيص والتصنيع الدقيق. ومع بقاء العالم عالقاً إلى حد كبير في ثقافةٍ واقتصاد قائمين على زراعة الكفاف التقليدية، ربما لم نكن لنشهد على الإلب نهاية للعبودية، ولا بداية للنسوية.
كانت المحركات الرئيسية لتلك الحقبة هي المحرك البخاري، ونظرية الجراثيم، والكهرباء والسكك الحديدية. ومن دون النمو الاقتصادي الهائل الذي جعلته هذه المحركات ممكناً في القرن العشرين، كان كل شيء آخر سيهم فقط بمقدار ما سيهم لو أنه حدث في العصور الوسطى. ولم يكن أحد يعرف ذلك في العام 1800، لكن المستقبل الجيوسياسي للقرن العشرين كان قد شرع في التكون مسبقاً قبل تسعة عقود، عندما اخترع توماس نيوكومين أول محرك بخاري عملي. وقد لا يحب المؤرخون وصانعو السياسة الخارجية سماع هذا، لكن كل الأشياء التي يدرِّسونها ويكتبونها عن الجغرافيا السياسية للقرن التاسع عشر هي مجرد هوامش وحواشٍ للثورة الصناعية، فحسب. ويرجح أن ينطبق الأمر نفسه بالضبط عندما نكتب –نحن أو نسلنا من الروبوتات- تاريخ الثورة الرقمية للقرن الحادي والعشرين.
التحول إلى الذكاء
ليس من الممكن تحديد التيارات الجيوسياسية للقرن الحادي والعشرين بنفس الثقة التي يمكن بها تحديد نظيراتها في القرن التاسع عشر، لكن هناك بعض التيارات الواضحة مع ذلك. هناك صعود الصين. وهناك تصاعد القبلية السياسية، وانهيار محتمل للديمقراطية الليبرالية يلوح في الأفق. وفي المدى الأقرب، ثمة الإرهاب الجهادي. وفي حقبة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، من الصعب عدم التساؤل عما إذا كان العالم يتجه نحو مستقبل من تدهور التعاون وعودة إلى منافسة القوى العظمى الواضح الذي محصلته صفر. ولكن، مع الحذر المعتاد الذي ينبغي أن يصاحب كل تكهن عن القرن الحادي والعشرين –بالتحديد، ما يتعلق بما إذا كان هذا القرن سيعتمد على البشر الذين ما يزالون موجودين في الجوار- فإن أيا من هذه القوى المذكورة لن تكون مهماً حقاً، أيضاً. في الوقت الراهن، يشهد العالم انبلاج فجر "ثورة صناعية" ثانية - ثورة رقمية هذه المرة. وسوف يكون تأثيرها، إذا كان ثمة شيء، أكبر من تأثير الثورة الأولى.
ولكن، حتى مع ذلك، فإن هذه الثورة لمّا تبدأ بعد. ثمة روائع التقنية الحديثة وأعاجيبها في كل مكان، لكن كل ما تم ابتكاره حتى الآن هو مجرد ألعاب أفضل فحسب. وسوف يكون من شأن قيام ثورة تقنية جديدة أن يزيد الإنتاجية الكلية للاقتصاد العالمي، تماماً كما حدث خلال حقبة "الثورة الصناعية"، عندما سمحت الآلات للشركات بأن تنتج قدرا أكبر بما لا يقاس من البضائع بقدر بنفس العدد من الناس. لكن هذا لا يحدث الآن. وبعد تراجع كبير في السبعينيات، اتجه نمو إنتاجيه العمل إلى الصعود ببطء خلال العام 2007 –فيما يعزى الفضل في معظمه إلى التبني واسع الانتشار للوجستيات المحوسبة وسلاسل التوريد العالمية في مجتمع الأعمال- لكنه عاد فهبط بحدة. وعلى الرغم من عجائبنا التقنية التي نراها اليوم، فقد ظل نمو الإنتاجية بطيئا بعناد على مدى العقد الماضي، وهو ما يشير إلى أن آخر جيل من الآلات لا يقوم بإنجاز الكثير حقاً.
لكن كل هذا يوشك أن يتغير. كان الذكاء الاصطناعي مصدر هوس للتقنيين عمليا منذ اختراع الحواسيب، لكن التفاؤل البدئي الساذج للخمسينيات سرعان ما أخلى مكانه لـ"شتاء الذكاء الاصطناعي" في السبعينيات، بينما أصبح واضحا أن الحواسيب في ذلك الوقت كانت تفتقر إلى قوة المعالجة الأساسية اللازمة لمضاهاة الدماغ البشري. ولكن، تماما كما تنبأ "قانون مور" (1)، فإن قوة الحواسيب استمرت في التضاعف كل عام أو اثنين، وكذلك فعل التقدم في مجال الذكاء الاصطناعي. وقد أخلت الشبكات العصبية مكانها لأنظمة الخبراء، التي أخلت مكانها بدورها للتعليم الآلي. وأدى ذلك إلى ظهور حواسيب يمكن أن تقرأ الكلمات المطبوعة وأن تنجز عملا أفضل في البحث في شبكة الإنترنت، لكن الكأس المقدسة للذكاء الاصطناعي –صناعة حاسوب يستطيع أن يمر وكأنه كائن بشري في محادثة عادية- ظلت بعيدة المنال.
حتى في هذا اليوم، ما يزال الذكاء الاصطناعي في مرحلته الجنينية –الإجابة عن أسئلة "جيوباردي" (2)، الفوز في لعبة شطرنح، العثور على أقرب مقهى- لكن الشيء الحقيقي الذي ينبغي أن ينجزه ليس بعيداً كثيراً. وللوصول إلى هناك، فإن ما يلزم هو أجهزة قوية بنفس طاقة الدماغ البشري، وبرمجيات يمكن أن تفكر بنفس الاقتدار.
بعد عقود من الاحباط، أصبح الجزء الخاص بالأجهزة جاهزا تقريبا: فالحواسيب الأكثر قدرة في العالم وصلت مسبقاً إلى نفس قدرة العقل البشري. وتقاس قدرة الحاسوب عادة بعمليات الفاصلة العائمة لكل ثانية، أو "فلوبس" flops (3)، وتقترح أفضل التقديرات اليوم أن الدماغ البشري له قوة حوسبة فعالة تعادل ما بين 10 إلى 100 بيتافلوبس (كوادريليون من العمليات في الثانية). (4) وكما يحدث، فإن قدرة أكثر الحواسيب قوة في العالم الآن تقدر بما بين 10 إلى 100 بيتافلوبس أيضاً. ولسوء الحظ، فإن حجم الواحد منها يعادل غرفة الجلوس، ويكلف أكثر من 200 مليون دولار، ويولد فواتير كهرباء بقيمة 5 ملايين دولار.
ما نحتاجه الآن هو جعل هذه الحواسيب أصغر وأرخص بكثير. وسوف يعمل مزيج من المُعالجات microprocessors الأسرع، والشرائح الميكروية microchips المحسنة، وقدرة أكبر على إجراء حسابات متعددة بالتوازي، وخوارزميات أكثر فعالية، على إغلاق الفجوة في غضون عقدين آخرين أو نحو ذلك. ويبقى جانب البرمجيات أكثر ضبابية بطبعه، لكن التقدم فيها خلال العقد الماضي كان هائلاً. ومن الصعب وضع أرقام دقيقة حول تقدم البرمجيات، لكن الناس الذين يعرفون أكثر ما يكون عن الذكاء الاصطناعي –الباحثون أنفسهم- متفائلون بقدر ملحوظ. وفي مسح لخبراء الذكاء الاصطناعي، والذي نُشر في العام 2017، وافق ثلثا المستجيبين على أن التقدم في البرمجيات قد تسارع في النصف الثاني من حياتهم المهنية. وتوقعوا أن تكون هناك فرصة بنسبة 50 في المائة لأن يكون الذكاء الاصطناعي قادراً على أداء كافة المهام البشرية بحلول العام 2060، في حين توقع المستجيبون الآسيون أن ذلك يمكن أن يحدث أقرب إلى العام 2045.
ولا يعتقد هؤلاء الباحثون أن الآلات ستكون قادرة على أداء العمل الروتيني فحسب؛ بل إنها ستكون قادرة على أداء عمل أي شخص في كل شيء: من تقليب البيرغر إلى كتابة الروايات إلى إجراء عمليات جراحة القلب. وبالإضافة إلى ذلك، ستكون الآلات أسرع بكثير، ولا تتعب مطلقاً، ولديها وصول فوري إلى جميع المعارف في العالم، وسوف تتباهى بقدرة تحليلية أكثر من أي إنسان في العالم. ومع الحظ، سوف يؤدي هذا في النهاية إلى إنتاج يوتوبيا عالمية، لكن الوصول إلى سيكون غير مؤكد. وفيما سيبدأ في غضون بضعة عقود، ستجعل الروبوتوت ملايين الناس عاطلين عن العمل، ومع ذلك ما تزال أنظمة العالم الاقتصادية والسياسية قائمة على افتراض أن الكسل هو السبب الوحيد لعدم الحصول على وظيفة. وهذا في الحقيقة مزيج حارق.
الترحيب بسادتنا الجدد: الروبوتات
ولكن، لا يخطئن أحد: سوف تكون الثورة الرقمية أكبر ثورة جيوسياسية في التاريخ البشري. كانت الثورة الصناعية قد غيرت العالم، وكان كل ما فعلته هو مجرد استبدال العضلات البشرية، وإنما ظلت الحاجة ماسة إلى العقول البشرية لكي تبني الآلات وتقوم بتشغيلها وصيانتها، وقد أنتج ذلك الكثير من الوظائف جيدة الأجور للجميع. لكن الثورة الرقمية سوف تستبدل العقل البشري. وبالتعريف، فإن أي شيء يستطيع الإنسان أن يفعله، سوف يكون الذكاء الاصطناعي من درجة البشر قادراً أيضاً على فعله –وإنما بشكل أفضل. وسوف يكون لدى الروبوتات الذكية كل من العضلات لأداء العمل والقوة العقلية لإدارة وتشغيل أنفسها. وبوضع الجدالات الفلسفية الهوائية حول ما إذا كان يمكن للآلة أن تفكر حقاً جانباً، فإن الروبوتات ستجعل جنس الإنسان العاقل (الهوموسابين)، لكل الأسباب العملية، كائنا عفا عليه الزمن وفائضا عن الحاجة.
سوف يبدو أي اتجاه جيوسياسي آخر في القرن الحادي والعشرين ضئيلا وتافها بالمقارنة. ولنأخذ صعود الصين. ملايين الكلمات قيلت عن هذا التطور، والتي غطت التاريخ الصيني، والثقافة والديمغرافيا والسياسة الصينية. وسوف تكون لكل هذا أهمية على مدار العشرين سنة القادمة أو نحو ذلك، أما بعده، فإن شيئاً واحداً فقط هو الذي سيهُم: هل سيكون لدى الصينيين أفضل ذكاء اصطناعي في العالم؟ إذا فعلوا، فإنهم سيسيطرون على العالم إذا أرادوا ذلك. وإذا لم يفعلوا، فلن يفعلوا.
الإرهاب الجهادي؟ حتى لو صمد لعقد آخر أو نحو ذلك –وهو أمر مشكوك فيه، بالنظر إلى تناقص نجاحاته باطراد منذ 11/9- فإنه سرعان ما سيصبح ضحية للذكاء الاصطناعي. وقد تمكنت الطائرات المسيرة البكماء، مصحوبة بالتحليل الآلي لقواعد البيانات الهائلة لإشارات الاستخبارات، من رد مجموعات الإرهاب على أعقابها مسبقاً. وبينما تصبح الطائرات المسيرة أكثر قدرة وتصبح برمجيات التوجيه أكثر ذكاء، فلن تمتلك أي منظمة منخفضة التقنية أي فرصة للبقاء.
بشكل أكثر عمومية، سوف تصبح أعمال الحرب مقودة بالآلة بالكامل. وفيما ينطوي على مفارقة، فإن هذا ربما يجعل الحرب فكرة عتيقة ولا لزوم لها. إذ، ما الفكرة من القتال عندما لا تكون الشجاعة الإنسانية والمهارة البشرية مطلوبتين؟ وإلى جانب ذلك، فإن الدول التي لا تمتلك الذكاء الاصطناعي ستعرف أنها لن تكون لها أي فرصة في الفوز، في حين ستكون لدى الدول التي لديها ذكاء اصطناعي من الطراز  الأعلى طرق أفضل للحصول على ما تريد. وسوف تخلي حاملات الطائرات وصواريخ كروز مكانها لحملات الدعاية الدقيقة والحرب السيبرانية التي لا يمكن كشفها أو تعقب مصدرها.
ثم هناك الديمقراطية الليبرالية. إنها تحت الضغط مسبقا –على السطح بسبب العاطفة المناهضة للهجرة، وعلى مستوى أعمق بسبب القلق العام بشأن الوظائف. وكان هذا جزءا من العوامل التي دفعت ترامب إلى سدة الرئاسة. لكن ما حدث حتى الآن هو مجرد هزة صغيرة، والتي تسبق التسونامي القادم. وفي غضون عقد، ثمة احتمال كبير لأن يصبح كل سواقي شاحنات الرحلات الطويلة بلا عمل بفضل تقنية المركبات ذاتية القيادة. وفي الولايات المتحدة، يوفر هذا القطاع مليوني وظيفة، وبمجرد أن يصبح الذكاء الاصطناعي جيداً بما يكفي لقيادة شاحنة، فإنه ربما يكون قد أصبح جيداً بما يكفي ليقوم بأي عمل آخر ربما يتحول إليه سائق الشاحنة أيضا.
كم هو عدد الوظائف التي ستُفقد في نهاية المطاف، وبكم من السرعة ستختفي؟ يعرض الخبراء المختلفون تقديرات مختلفة عن خسارة الوظائف، لكنهم يتفقون جميعاً على أن الأعداد ستكون كبيرة إلى حد مفزع، وأن الأطر الزمنية قصيرة إلى حد مرعب أيضاً. وقد تنبأ تحليل أجرته في العام 2017 شركة التدقيق PwC بأن 38 في المائة من كل الوظائف في الولايات المتحدة "تحت خطر كبير من الأتمتة بحلول بواكير عقد الثلاثينيات"، ومعظمها مهن روتينية، مثل مشغلي الرافعات الشوكية، وعمال خطوط التجميع، وموظفي صناديق المحاسبة في المحلات ومراكز التسوق . وبحلول عقد الأربعينيات، كما يتوقع باحثو الذكاء الاصطناعي، سوف تكون الحواسيب قادرة على إجراء أبحاث أصلية في الرياضيات، وإجراء العمليات الجراحية، وكتابة الروايات الأفضل مبيعاً، والقيام بأي عمل آخر يتطلب ملكات إدراكية ومعرفية مماثلة.
في عالم حيث تُعَد نسبة 10 في المائة من البطالة ركوداً رئيسياً وحيث تشكل نسبة 20 في المائة حالة طوارئ عالمية، يحتمل كثير أن تؤدي الروبوتات ربع مجموع العمل أو أكثر. وهذا هو عمل الثورات العنيفة. وعلى النقيض من الثورة الصناعية، التي استغرقت أكثر من 100 العام حتى تتكشف نتائجها حقاً، فإن خسران الوظائف خلال الثورة الرقمية سوف يتسارع في مجرد عقود. وهذه المرة، لن تحدث الثورة في أمة من أصحاب الدكاكين والمحلات، وإنما في عالم من الشركات متعددة الجنسيات عالية التعقيد والتطور، والتي تطارِد الأرباح بلا رحمة. وسوف يكون الذكاء الاصطناعي أكثر التقنيات التي شهدها العالم ربحيةً على الإطلاق.
احتدام الغضب ضد الآلة
ما الذي يعنيه كل هذا للسياسة؟ في حقبة من البطالة الجماعية، يمكن للمرء أن يجادل بأن شكل الحكومة سيكون أكثر الأشياء أهمية في العالم، بما أن الحوكمة الحديثة تتعلق في معظمها بإدارة الاقتصاد والسيطرة عليه من أجل الصالح الأفضل. لكن المرء يستطيع بنفس السهولة أن يقيم القضية بأن ذلك لن يكون مهماً على الإطلاق: إذا كانت الروبوتات تستطيع أن تنتج إمداداً لا نهاية له من السلع المادية، فما الذي يتبقى بالضبط لإدارته والسيطرة عليه؟
سوف يكون الرهان الوحيد الأكيد هو أن شكل الحكومة الذي سيظهر على القمة هو واحد سيثبت أنه الأكثر قدرة على تحشيد واستثمار قوة الذكاء الاصطناعي وتوجيهها إلى معظم الناس. ولدى الماركسيين مسبقاً الكثير من الأفكار عن كيفية التعامل مع هذا الوضع –دع الروبوتات تسيطر على وسائل الإنتاج، ثم قم بتوزيع الغنائم على الجميع، كلٍّ وفقاً لحاجاته/ حاجاتها- لكن الماركسيين لا يمتلكون احتكاراً للحلول. ما تزال لدى الديمقراطية الليبرالية فرصة، وإنما فقط إذا أخذ قادتها على محمل الجد الطوفان الذي يوشك أن يضربهم ويخمنون كيف يمكن مؤاءمة الرأسمالية مع عالم يصبح فيه إنتاج السلع منفصلاً تماماً عن العمل. ويعني ذلك كبح جماح قوة الأثرياء، وإعادة التفكير في كل فكرة ماهية الشركة، والقبول حقاً –وليس على مضض فقط- بمستوى معين من المساواة في توزيع الحصص من السلع والخدمات.
تبدو هذه رؤية قاتمة. لكن هناك بعض الأخبار الجيدة أيضاً، حتى في المدى المتوسط. سوف يكون التطوران الأكثر أهمية في القرن الحادي والعشرين هما البطالة الجماعية الناجمة عن الذكاء الاصطناعي، والتغير المناخي الناجم عن الوقود الأحفوري –ويحتمل كثيراً أن يتمكن الذكاء الاصطناعي من حل مشكلة التغير المناخي إذا ما تطور بسرعة كافية. فبعد كل شيء، يمتلك العالم مسبقاً معظم التكنولوجيا اللازمة لإنتاج الطاقة النظيفة: أي، طاقة الرياح والطاقة الشمسية. والمشكلة هي أنه يجب بناؤها على نطاق كبير وبكلف كبيرة. وهنا حيث يمكن أن تأتي الروبوتات الرخيصة الذكية، لتقوم بإنشاء بنية تحتية ضخمة لكل شيء تقريباً. ولا تضحك! ولكن بمجرد أن يصبح الذكاء الاصطناعي من المستوى البشري حقيقة واقعة، فلن يكون هناك سبب للتفكير بأن التقدم سيتوقف. وقبل أن يمضي طويل وقت، ربما تساعد مستويات فوق-بشرية من الذكاء الاصطناعي العلماء أخيراً على تطوير الكأس المقدسة للطاقة النظيفة: الاندماج النووي.
لا شيء من هذا سيحدث على الفور. فتكنولوجيا اليوم بالنسبة للذكاء الاصطناعي الحقيقي هي مثل طائرة الأخوين رايت Wright Flyer لمكوك الفضاء. وعلى مدى العقدين التاليين، سوف تكون الحركات العالمية الأكثر أهمية هي كل المشتبه بهم المعتادون أعلاه. لكن الذكاء الاصطناعي، بعد كل شيء، سيشرع في جعل كل ذلك يبدو تافها. سوف تكون المنافسة بين القوى العظمى بشكل أساسي منافسة بين تقنيات الذكاء الاصطناعي لدى البلدان المختلفة. ولن تكون القبَلية مهمة: من يعبأ بشأن الهوية إذا كان كل العمل تقوم به الروبوتات؟ وربما ستظل الديمقراطية الليبرالية تهُم، وإنما فقط إذا عرفت كيف تتعامل مع البطالة الجماعية بطريقة أفضل من أنظمة الحكم الأخرى. وسوف يواجه الدين أوقاتاً صعبة أيضاً، عندما تصبح تفاعلات الناس مع العالم تتم باطراد بوساطة تكوينات تبدو في كل تفصيل مفكِّرةً وخلّاقة مثل البشر، وإنما التي ليست –بوضوح- من خلق الله ولا يبدو أن بها أي حاجة إلى قوة علوية.
لقد حان منذ وقت طويل للشروع في أخذ هذه الأمور على محمل الجد. ويمكن حتى للمصابين برهاب التقنية أن يروا أين تهب الرياح : على مر التاريخ، أنتج الحرمان الاقتصادي الجماعي إصلاحات تقدمية مدروسة أقل مما أنتج من الثورات والحروب العنيفة. وغني عن القول أن ذلك لا ينبغي أن يكون بالضرورة واقع الحال هذه المرة. ربما يكون من المستحيل إيقاف وقف مسيرة التقنية، لكن من الممكن فهم ما هو قادم والاستعداد لاستجابة مستنيرة.

اضافة اعلان

*نشر هذا المقال تحت عنوان: Tech World: Welcome to the Digital Revolution
هوامش المترجم:
(1) قانون مور (بالإنجليزية: Moore's law) هو القانون الذي ابتكره غوردون مور أحد مؤسسي إنتل في العام 1965. حيث لاحظ مور أن عدد الترانزستورات على شريحة المعالج يتضاعف تقريباً كل عامين في حين يبقى سعر الشريحة على حاله.
(2) Jeopardy!، هي لعبة تلفزيونية أميركية ابتكرها ميرف غريفين. ويتكون البرنامج من منافسة مكونة من أسئلة، حيث تُطرح على المشاركين إلماحات معرفية عامة على شكل إجابات، حيث يجب أن يصوغوا إجاباتهم في شكل أسئلة.
(3) (فلوبس (بالإنجليزية FLOPS في الحوسبة، هي اختصار للجملة (FLoating-point Operations Per Second) والتي تعني عملية النقطة العائمة بالثانية، وهي مقياس لأداء الحاسوب، وخصوصاً في حقل الحسابات العلمية والتي تستخدم بشكل كثيف حسابات عدد فاصل عائم بشكل مشابه للنموذج الأقدم :أوامر للثانية  (Instructions per second).
(4) كوادريليون: هو عدد يساوي مليون مليار. . يكتب الكوادريليون كما يلي: 000 000 000 000 000 1 (واحد عن يمينه خمسة عشر صفراً) 10^15.