الأسدي: أوجه عملي إلى نخبة من يرى وليس إلى عامة من يسمع

الأسدي: أوجه عملي إلى نخبة من يرى وليس إلى عامة من يسمع
الأسدي: أوجه عملي إلى نخبة من يرى وليس إلى عامة من يسمع

مخرج مسرحي عراقي يحاكي طاقة الممثلين القصوى

 

حاوره: زياد العناني ومحمد جميل خضر

 عمان - يرتكز المؤلف والمخرج العراقي جواد الاسدي في حراكه المسرحي على مساحة زمنية تمتد لأكثر من نصف قرن من الاعمال والبروفات والكتابة ومحاكاة طاقة الممثلين القصوى.

اضافة اعلان

وعبر أكثر من عشرين عملا مسرحيا ما بين التأليف والإعداد والإخراج أسس مخرج "المجنزرة مكبث" لنفسه في المشهد المسرحي العربي والعالمي مكانة مهمة, اعتمد فيها الإخلاص العميق لأبي الفنون, واختار في صيرورتها منهجا ابداعيا مغايرا يتشكل عنوانه الاول من العمل الجاد والمضني على الممثل كجزء حيوي من المنحوتة المشهدية البصرية التي يريد لها الاسدي ان تتشكل فوق الخشبة بوعي منحه ما يحتاجه من حصانة أكاديمية بدأها في أكاديمية الفنون في بغداد واستوفاها بحصوله على الدكتوراه في جامعة صوفيا البلغارية.

ولا يرى صاحب "الاغتصاب" التي كتب الراحل سعدالله ونوس نصها أي قطيعة موضوعية بين اليومي المعاش من قضايا الناس وأشجانهم وبين السياسي الساعي مسرحيا الى كشف أحادية القرار وتسلطه, والى كشف التشابه الكبير في آليات القوى المتحكمة بمصائر الناس المسحوقين, المغلوب على أمرهم.

وعلاوة على إخراجه أعمالا كثيرة معظمها عن نصوص كتبها بنفسه فللأسدي تجارب في الكتابة النقدية والجمالية القريبة من النفس الروائي مثل عمله المهم "جماليات البروفة" المتوقع صدور الجزء الثاني منه قريبا وله في سياق متصل "البروفات جنتي" و "انس وهاملت" عن الفارابي و"سنوات مرت من دونك" المتعلق بالحالة العراقية ومعايشته لها.

ومن تجاربه اللافتة "ليالي احمد بن ماجد" الاستعراضي الذي أثار ضجة عربية كبيرة من تأليفه وإخراجه وتمثيل فريق اماراتي بمصاحبة فرقة "انانا" الاستعراضية السورية الفلسطينية.

ولونوس ايضا اخرج "رأس المملوك جابر" اضافة الى نساء في الحرب التي تعرض الآن على مسرح مدينة "ليف" وتقوم ببطولتها ثلاث نساء روسيات. كما عرضت سابقا في بغداد وقامت ببطولتها شذى سالم وسهى سالم وآسيا كمال.

ولدمشق التي قضى فيها معظم سنواته الماضية عاد بعد تجربة عودة مرة الى بغداد خرج منها يقطر حزنا واسئلة أنجز من وحيها عمله الأخير "حمام بغدادي" التي عرضت بعد دمشق في افتتاح فعاليات ايام عمان المسرحية التي تنتهي الليلة. وعلى هامش هذه المشاركة الصاخبة  كان لـ"الغد" مع الأسدي هذا الحوار:

* دعنا نبدأ من "حمام بغدادي" التي ظهرت فيها سطوة السرد على باقي مكونات العمل المسرحي, هل تتفق معنا حول هذه الفرضية?

- دعوني اختلف معكم لأن السياق الرئيسي لكتابة نص "حمام بغدادي" كان سينمائيا روائيا, اكثر من سياق مسرحي تقليدي, بمعنى ان شخصيتي العمل غذتا الحدث في منطقتين, عبر تفاوتهما القائم في الماضي, أخ أكبر وأخ أصغر واحد نقي والثاني ملوث والمتحقق ايضا في اللحظة المتعينة الآن المتصاعدة في صيرورة العرض الدرامية والمتسببة في صراع درامي اثناء سعي كل منهما لتحقيق وجوده التاريخي. والعرض بعيدا عن السردية يكشف الى ذلك مأزقهما الحالي بوجود الاحتلال الذي يمثل امتدادا لمأزقهما القديم ايام النظام السابق.

وبالتالي أرى ان فرضية الشاعر اللبناني بول شاوول حول ان وجودهما يهدف لكشف الانظمة صحيحة الى درجة كبيرة, وهو ما يؤكده المونولوج الداخلي لكل منهما, حميد في مونولوجه المتعلق بالزمن السابق "القمع والقتل" ومجيد في مونولوجه حول ما فعلته معه قوات الاحتلال على الحدود عندما وضعته في حالة هستيرية وجردته من إنسانيته.

إنهما كانا ينتظران المخلص ولكن للأسف الشديد المخلص الذي جاءهما كان يحمل الوباء اكثر مما كان النظام القديم, أي بمعنى ان النظام القديم والاحتلال الجديد لم يؤسسا سوى لمزيد من الفجائعية والمأساوية للشعب العراقي.

 وهنا يكمن السرد ويحمل حديثهما وحوارهما راهنية وصيرورة درامية فإن ثمة تشابكا وهو ما قصدته بالخصوصية السينمائية.

* طلعت بعض الاصوات بعد العرض تقول ان معالجة الأسدي في "حمام بغدادي" آتية من خارج الحالة العراقية, كيف ترد على ذلك?

- يبدو ان هناك في راهنية ما يجري في الثقافة العراقية نزاعا بين مثقفي الداخل والخارج. وحتى هذه اللحظة هناك عدد غير قليل من المثقفين العراقيين يتخوفون من هذا الشكل التعبيري الأقرب الى سطح الحالة العراقية. باعتقادي ليس هناك مثقفو داخل ومثقفو خارج, وليس هناك كتابة من الخارج وأخرى من الداخل.

ولكي يكتب غابريل غارسيا ماركيز رواية فانتازية عن موضوع ما, فهل يعني هذا انه ينبغي ان يعيش كل ثنيات الموضوع ويندغم فيه ليعرف كيف يعبر عنه? الفن هو فن المتخيل وإعادة كتابة الواقع السياسي والتاريخي والانساني بطريقة فيها الكثير من الانزياح عن المادة والحس الطبيعي. في المبنى العام للمشهد السياسي لا يوجد شيء يدل على صحة الموضوع الذي طرحته انا من حيث موت الثري وحمل التابوت من عمان الى بغداد. وانا اردت بهذه الكتابة السوريالية الأقرب الى الغرائبية  ألا أقع في فخ الطبيعة الساذجة, وانتقلت بالنص الى منطقة كافكوية فيها كثير من عبث بيكيت.

* قيل ايضا ان نهاية "حمام بغدادي" جاءت باهتة, هل يدخل ذلك ايضا ضمن قراءة نقدية ما?

- لا أفكر في النهاية بمعزل عن البناء الكلياني للعرض, ومع ذلك فالنهاية بما أوردته فيها كانت ضرورية, وفيها اتهام صريح وواضح للاحتلال وأردت ان أقول فيها ان الاحتلال حوّل الحياة العراقية الى كابوس مرعب وأدخله في مغطس سوريالي.

* تركز على الممثل كأساس في العمل المسرحي وتشتغل عليه بصبر وأناة, الى ماذا يحيلنا ذلك داخل فضاءات رؤيتك الإخراجية?

- هناك مستويان من العمل مع الممثل وتواطؤ صامت بين ما يحمله ذلك الممثل من وعي جمالي وبين عملي عليه, والا فهناك صدامات مرعبة بيني وبينه وما أريده حقيقة من الممثل ان ينتمي بشكل حقيقي للشخصية, من دون معايشة عمياء, بل انتماء يحتوي على كثير من الرؤية والفهم والهضم لشروط الشخصية, ويفترض ان يؤدي الممثل دوره وفق مسافة معقولة بينه وبين الشخصية التي يؤديها وان يلون في اداءاته ويحمي نفسه. وإجمالا لا مكان في أعمالي للممثل الجاهل.

* لو لم تكن القضية الفلسطينية اضافة الى القضية العراقية في مسرحك ماذا يمكن ان تكون مضامينك المفضلة?

لا أعرف السياق التاريخي لعملي المسرحي. لقد وضعني السؤال الفلسطيني ضمن هذا السياق ثم وضعتني الحالة العراقية في السنوات التالية في دواخله. لكن وفي العموم أنا لم أك رهينة لهذين الموضوعين رغم انتمائي المعبر عن الحالتين.

لقد حاولت ان يكون السياق الخارجي بمرجعية سياسية, في حين ظل السياق الداخلي ضمن المضمون الانساني. وحتى عندما كان المسرح الفلسطيني يغرق في الخطابات السياسية حاولت الانزياح وبقيت أجمع ما بين السياقين.

* يأخذ عليك بعض النقاد انشغالك بشعرية النص وشعرية الإخراج ماذا تقول في هذا المجال?

يسقط المسرح في حفرة بدائية ساذجة عندما يعبر عن القضايا ذات الطابع المأزقي بشكل سياسي مباشر. المسرح ينتمي إليّ عندما يتم دفع المضامين الى الاشكال السياسية. في تجربتي لم أرغب في كتابة أي شيء عاطفي بقدر ما كنت أقصد أن أشرخ روح الجمهور كما هو الحال في "حمام بغدادي". أما بالنسبة لعلاقتي بالشعر أو الإحساس بالقصيدة فقد بدأت منذ ان تهجيت العلاقة الأولى مع المسرح. وهذا "الفيروس" انتقل معي وفي حياتي وفي كتاباتي حتى الإخراج. وهنا اريد ان أتحدث عن الإخراج والمضمون الشعري لأقول: يغويني النص "اللوركي" بقوة وبشكل عنيف ولهذا تصديت لإخراج "برناردا" التي مثلتها نادرة عمران وأثرت الكثير من "التدفق الشعري الخطر والمهم جدا". المسرحية التي أقوم بإخراجها لا تعنيني إن لم تكن مبنية على جماليات النحت والرسم ايضا, بمعنى إعادة كتابة الأجساد. في "حمام بغدادي" رسمت المسرحية رسما وهذا الجانب للأسف أغفله النقاد. عموما أنا لا أوجه عملي الى عامة من يسمع بقدر ما أوجهه الى نخبة من يرى. وبهذا المعنى انا مسكون باختيار ممثل من نوع خاص كشرط شعري للمعنى الإخراجي الذي أحلم به.

* برأيك أين المسرح الحقيقي الآن أمام الهجمة السلعوية التي تفرضها الفضائيات العربية, وإلى متى يصرع المبدع على أزمة مخاطبة النخبة فقط?

اضم رأيي الى يأسك. أنا مثلك, ولكن يأسي مشاكس ويريد ان ينتقل الى منطقة أخرى وهنا دعني أقول المشكلة ليست في الجمهور وانما بما يحيط بهذا الجمهور بدءا من تدني اهتمام المؤسسات الثقافية والعربية وانحطاط مستواها. بصراحة المؤسسات مبرمجة للدولة والدولة تعمل على تجهيل المؤسسات غير ان المؤسسات تعيد الخديعة اليها. الفضائيات بكل ما تحمله من "فيروسات" وأمراض مستعصية صارت تجارة تسوق برامج "بدائية" وتضع الناس في مطحنة الأمية. والسؤال الآن: اذا كان الناس يستنشقون كل هذا الهواء الفاسد كيف سيزدهر المسرح? خصوصا المسرح الاختباري والطليعي الذي يعد فكرة الانتماء للناس والتعبير عن مشاكلهم وهنا تحديدا يحدث الاختلال ما بين الوعي الجمالي للعروض وبين الناس الذين لا يريدون الخبز الثقافي لان مركب الوعي الحالي للجمهور الحالي يعد مركبا بدائيا ولكن في النهاية بالنسبة لي انا "دنكشوتي" واستطيع ان أقول المجد لعزلة المسرح حتى وإن خاطب جمهوراً قليلاً.