الأسير أبو حنيش يحرر إجابات عن كيفية الكتابة خلف الأبواب الموصدة

غلاف الكتاب-(من المصدر)
غلاف الكتاب-(من المصدر)
عمان- يقول الأسير الباحث والروائي كميل أبو حنيش، إن الكتابة من قلب السجن تعد معجزة، إذا ما قورنت بالكتابة من أي مكان آخر، وذلك من خلال تجربتي الشخصية وتجارب أخرى مماثلة. إذ إن الأسير الكاتب يحيا في قلب دوامة من الهواجس والتوترات والمنغصات، لم يألفها أي كاتب آخر في أي مكان في العالم، الأمر الذي يستحق الكتابة عنه.اضافة اعلان
ويضيف أبو حنيش الذي ما يزال يقبع في سجون الاحتلال، في مقدمة كتابه "الكتابة والسجن- عالم الكتابة في السجن"، إن فكرة مشروع هذا الكتاب جاءت بسبب تهافت بعض الدول العربية على التطبيع مع الدولة العبرية، في ظل حالة فلسطينية متردية، ما تزال تدور في الحلقة المفرغة ذاتها.
في "الكتابة والسجن- عالم الكتابة في السجن" الصادر عن دار طباق للنشر والتوزيع، بالتعاون مع "نادي الأسير"، ضمن مشروع "كلمات حرة" الهادف إلى توثيق أدب الحرية، يوضح المؤلف أنه أطلق عليه اسم "مشروع"، لأنه ما فتئ يتخلق وينمو، فأراد إنجازه على حلقات، من أجل أن يشارك القارئ في النقاش وإبداء الرأي، وبالتالي يسهم القارئ المهتم بالشأن الاعتقالي في تطوير هذا المشروع، وإثرائه.
ويبين أنه طوى قرابة ثمانية عشر عاما في السجن في رحلة طويلة قاسية، ولا يعرف متى ستنتهي.
ويقول أبو حنيش "منذ الأيام الأولى من رحلتي الاعتقالية، شرعت في عملية الكتابة اليومية حتى صارت طقسا مقدسا، بل إدمانا، وأصبحت حالة مرضية لا شفاء منها. وأنجزت حتى الآن ما يربو على خمسة عشر كتابا متنوعا في حقول السياسة والأدب والفكر، فضلا عن نشر عشرات المقالات والدراسات السياسية والأدبية، وقصائد الشعر التي تناهز 190 مقالة ودراسة وقصيدة شعرية".
ويؤكد المؤلف أن الاحتفاء بالكتابة لا ينطوي على التفاخر بالإنجاز بقدر ما يعكس ألوانا من المعاناة، فقد كانت رحلة الكتابة مضنية وصعبة ومكتظة بالهواجس، "إذ لم أخطط بأن يكون لي مشروع في الكتابة من قلب السجن، وإنما أخذت هذه الأعمال تتطور وتنمو إلى أن وجدت نفسي كاتبا منهمكا في الكتابة".
ويبين أن ما جاء في هذه الحلقات "ليست مذكرات شخصية كأي كاتب يروي سيرته الأدبية أو الفكرية، حتى وإن بدت كذلك في ظاهرها، وإنما أروي وجها من تاريخ الحركة الأسيرة في واحدة من محطاتها الخطيرة، في ظل مشروع تنتهجه مصلحة السجون الإسرائيلية منذ سنوات في استهداف الوعي والإرادة والثقافة".
ويرى أبو حنيش أنه عندما يروي رحلة المعاناة والعقبات التي واجهته أثناء الكتابة، إنما يتحدث عن حقبة مهمة في معركة التحرر الوطني الفلسطيني، ويتحدث عن معاناة أعداد من الأسرى الكتاب الذين واجهوا مثلي هذه العقبات، وشهدوا المخاضات العسيرة لولادة إنتاجاتهم الأدبية والثقافية والسياسية، ويتطرق في هذه الحلقات إلى كل كتاب ومؤلف أنتجه المعتقلون، منها ما رأى النور وصدر بعد جهود وصعوبات كبيرة، ومنها ما لم يصدر بعد أو قيد الطباعة، ومنها من وافتهم المنية، وأجهضه السجان قبل اكتماله".
يقول المؤلف "من هنا أصبح من واجبي أن أروي عن هذه الكتابات التي رافقتني وشكلت جزءا مهما من حياتي، ومن هويتي كمناضل وكاتب وأسير مثقف يؤمن برسالة الكتابة، إذ بت أشعر أن هذه الأعمال، كما البشر، لها حياتها وحقوقها وكرامتها، وأن لها أرواحا تستجدي الحياة، وأن من الواجب الأخلاقي إنصافها والحرص على حياتها، والحديث عن رحلتها، بعد أن باتت لها حياة مستقلة عني. كما أنها تعرضت مثلي للقمع والتنكيل والملاحقة والاحتجاز، غير أنها كانت أيضا عنيدة مثلي مصرة على الولادة والانعتاق، إذ رغم احتجازها لأشهر أو ضياعها، تظل تصرخ وتتحدى، ولها نداؤها السري الذي كان يحثني أن أظل ألاحقها، إلى أن تعود إلي من جديد؛ لأعيد إنجازها وتسريبها خارج الجدران".
ويقول أبو حنيش، سألني العديد من الأصدقاء: كيف تكتبون؟ وكيف بوسعكم إخراج كتاباتكم خارج الأسوار؟.. وكان يتعين علي الإجابة عن هذه التساؤلات بإجابات مقتضبة، وبما تسمح به ظروفنا التي تضمن عدم انتهاكي لأحد الأسرار. وهنا أنا بعد سنوات أحرر بعض الإجابات عن كيفية الكتابة خلف الأبواب الموصدة، غير أن الإجابة عن الكتابة في السجن، قد تحتاج إلى دراسة أكثر عمقا تأخذ في حسبانها البدايات الأولى للكتابة الاعتقالية منذ أكثر من نصف قرن، إلى أن صار متاحا إخراجها بوسائل متطورة. بعبارة أخرى، أن تبحث هذه الدراسات الوسائل التي اعتمدها الأسرى في تهريب كتاباتهم منذ الكبسولة وحتى تصويرها على المحمل.
ويبين المؤلف أنه منذ اندلاع الانتفاضة الثانية، شددت إدارة مصلحة السجون من إجراءاتها ضد أي مادة مكتوبة يجري تسريبها للخارج، وتعاملت مع الأمر من زاوية أمنية. فقد كانت وسيلتنا في البداية في تسريب كتاباتنا إما عبر ما يعرف بالكبسولة أو من خلال المغامرة وإخراجها مع الأسرى المحررين. وفي هذه الحالة تكون هذه الكتابات خاضعة لأمزجة إدارات السجون، فإما أن يجري السماح بإخراجها، وإما أن تجري مصادرتها إلى الأبد.
ويزيد أبو حنيش، في السنوات الأربع أو الخمس الأخيرة، صار متاحا إخراج هذه الكتابات عبر الهواتف المهربة، وهذه الوسيلة شكلت اكتشافا مذهلا، ونقلة نوعية في تطور الأعمال الكتابية، ولإزالة أي التباس، أود التوضيح أنه لا يوجد هواتف شخصية في السجن إلا في حالات نادرة، فهي في معظمها معدة للاستخدام العام، يحصل بمواجبها الأسير على وقت محدد يتراوح بين دقائق أو ساعة في أحسن الأحوال، ويتعين على الكاتب أن يتدبر أمره في هذا الوقت اليسير.
ويشير المؤلف إلى أن تلك الهواتف بدائية وليست حديثة، ويجري استخدامها في حالة الأسير الكاتب من خلال تسجيل المواد، حيث يقرأها الأسير على السماعة وفي الطرف الآخر يجري تسجيلها. ومن الجدير الإشارة هنا إلى كون هذه الأجهزة مهربة إلى السجن، وليس مسموحا بها، وهي ملاحقة على الدوام، وجرى إنشاء وحدة متخصصة للتفتيش عنها ومصادرتها، مشيرا إلى أن هذه الوسائل تطورت في بعض السجون، وصار بالإمكان تصوير الأوراق المكتوبة، لكن وكما أسلفت، فإن معظم أعمالي الكتابية قد جرى تسريبها بطريقة تقليدية، أي من خلال الأسرى المحررين، وتعرضت أكثر من مرة للمصادرة، لذا صار يتعين علي أن أروي معاناتي مع الكتابة.
وفي تقديم الكتاب، يتحدث الكاتب والناقد عادل الأسطة عن أهمية الكتابة من داخل السجن، فيقول: "إن هذا الكتاب مهم، لمن يدرس أدب السجون، فالمؤلف يضيء لنا عالم الكتابة في السجن، وهو عالم يعاني فيه الكاتب الأسير معاناة هائلة منذ لحظة التفكير بالكتابة إلى لحظة تحققها وتجسدها وطباعتها وانتشارها، ولا يقلل من هذه المعاناة ويدفع الأسير إلى إعادة التجربة على تلقيه خبر صدور كتابته في كتاب، إن هذا لا يقلل من المعاناة وحسب، بل يقلب المعاناة إلى شعور بالرضا والاقتناع بأن نضاله لم يذهب سدى. وإذا ما تلقيت كتابات الأسير واحتفل بها قراءة وكتابة ونقاشا ازداد تفاؤلا وثقة بقضيته، وبدور الكلمة وأهميتها في الانتصار على عالم السجن".
ويضيف الأسطة، أن أبو حنيش يتتبع تجربته في الكتابة مرحلة مرحلة، ويكتب عن كتبه كتابا كتابا؛ لأن هذا يسهم في تفهم النص واستيعابه وتقدير جهد كاتبه، فهناك مقولة نقدية لأصحاب المنهج النفسي تقول (لكي نتذوقه فنانا علينا أن نعرفه إنسانا)، وهي جزء من مقولة أخرى تقول (لكي نثمن عملا أدبيا علينا أن نحيط بظروف نشأته)، وقد أخذ الشهيد غسان كنفاني بها أثناء دراسته أدب المقاومة، فلم يدرس النصوص بمعزل عن دراسة الواقعين الاجتماعي والثقافي لفلسطينيي فلسطين الباقين فيها بعد تأسيس دولة الاحتلال الإسرائيلي.
ويوضح الأسطة، أنه تابع الحلقات السبع والعشرين، حلقة حلقة، قائلا "كنت أعقب على قسم منها مبدئا ملاحظاتي عليها، وأثناء الحديث مع كميل كنت أتوسع في ملاحظاتي، لعل الكتاب يصدر بشكله الأفضل"، لافتا إلى أن هذا الكتاب هو "خلاصة تجربة كتابية وسياسية، امتدت على مدى ثمانية عشر عاما، وفيها نعرف عن السجن ومعاناة السجين، وهو مهم لإضاءة تجربة الكاتب".
ويذكر أن الأسير كميل سعيد أبو حنيش من مواليد قرية بيت دجن في محافظة نابلس في العام 1975، وهو حاصل على درجة البكالوريوس في الاقتصاد من جامعة النجاح في نابلس، وحصل على درجة الماجستير في العلوم السياسية داخل سجون الاحتلال العام 2019. وهو عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ومؤسس كتائب أبو علي مصطفى الجناح العسكري للجبهة الشعبية، وهو أسير معتقل في سجون الاحتلال منذ العام 2003.
وأبو حنيش هو باحث وكاتب وروائي، انخرط في المقاومة المسلحة في الانتفاضة الثانية، وأسس قوات المقاومة الشعبية الجناح العسكري التابع للجبهة الشعبية والتي أصبح اسمها "كتائب الشهيد أبو علي مصطفى"، وأصبح حنيش قائدا للجهاز العسكري في محافظة نابلس ثم في شمال الضفة.
صدر له من داخل السجن عدد من الروايات، نشر بعضها، مثل "خبر عاجل"، و"بشائر"، و"وجع بلا قرار"، و"الجهة السابعة"، كما نشرت له العديد من المقالات والدراسات.