المركز الوطني وتوطين حقوق الإنسان

 لطالما كان التشكيك، وحتى التجاهل واللامبالاة، سيد الموقف في تعامل المجتمع بفئاته كافة مع أي محاولة عربية "سلطوية" للاقتراب من حقوق الإنسان في الوطن العربي تحت دعوى "حماية!" هذه الحقوق. ومشروعية هذا الموقف الشعبي المجتمعي تظهر لا في حقيقة توحد "الخصم والحكم" في هكذا محاولات وحسب، بل بدا أن الهدف الرئيس منها هو "مصادرة" تلك الحماية وصولا إلى إلغائها. يشهد على ذلك العديد من الممارسات العملية، وفي غير بلد عربي، من خلال ما يعرف بـ"وزراء حقوق الإنسان"، الذين لم يكونوا في أحسن الأحوال سوى إضافة تجميلية باهتة وغير مجدية لوجه استبدادي استعصى على ما يبدو على التجميل. اما الأخطر، وكما ظهر ذلك فعلا على الأرض، فهو جعل هؤلاء الوزراء في غالبية الحالات أداة لمنح المشروعية لانتهاك حقوق الإنسان من قبل السلطة. 

اضافة اعلان

     وفي الأردن، ومع عدم إغفال الانتقادات التي وجهت إلى المركز الوطني لحقوق الإنسان منذ تأسيسه في العام 2002، ثم مباشرته لعمله في 1 حزيران 2003، والتي ينطبق عليها قول الإمام علي كرم الله وجهه: "كلمة حق أريد بها باطل"، إذ لم يكن الدافع وراءها إلا الخشية على التمويل الأجنبي المقدم لتعزيز حقوق الإنسان في الأردن، والذي صار بالنسبة للبعض مورد رزق وأسلوب تكسب شخصي ليس إلا، بعيدا عن أي إيمان بترسيخ مفاهيم حقوق الإنسان وأساليب تعزيزها، برغم ذلك، فإن انتقادات وتحفظات اخرى، لا سيما من أولئك المؤمنين بقضية حقوق الإنسان، كان مبعثها تلك التجارب العربية السابقة، والتوجس من أن يكون المركز أشبه بـ"حصان طروادة" الذي يتم إدخاله إلى حصن الديمقراطية الأردنية حديثة النشأة نسبيا. فإلى أي مدى يبدو ذلك صحيحا، أو حتى ممكنا؟

    صحيح تماما أن محاولة تقويم دور المركز الوطني لحقوق الإنسان وأدائه قد تبدو الآن غير ممكنة، ولا حتى منصفة، فيما لم يمض على مباشرة المركز لأعماله سوى سنتين فقط، لكن مثل هذا التقويم، وبغض النظر عن عمر المركز، يبدو من ناحية أخرى ضرورة ملحة للوطن الأردني ككل، وبجميع مكوناته، طالما آمنا بالخيار الديمقراطي وفي القلب منه احترام حقوق الإنسان، وطالما اقتنعنا – وهذا أمر محوري- باستثمار كل مؤسسات الدولة الموجودة، بتطوير الحديث منها ودعمه، كما هو حال المركز، أو إصلاح واستنهاض تلك التي مضى على تأسيسها سنوات طوال نسبيا، بدلا من محاربتها وإلغائها.

     ومن ثم، فإن عملية التقويم هذه لا تشمل المركز الوطني لحقوق الإنسان وحسب، بل وجميع الأطراف المعنية، وهي المجتمع والحكومة إضافة إلى المركز.

    وبعبارة واحدة، يمكن القول إن المركز يؤدي الدور المناط به من خلال مجموعة من النشاطات. لن نتوقف عند كل هذه النشاطات لتقويمها، فلذلك موضع آخر، لكن المركز ونشاطاته تظل علامة تحول رئيسة على صعيد احترام حقوق الإنسان في الأردن، وربما نموذجا لغيره؟

يتمثل هذا التحول في ما يمكن تسميته "توطين حقوق الإنسان" وجعل ثقافتها مكونا أساسيا للثقافة والممارسة الوطنيتين؛ إذ لعلها المرة الأولى في تاريخ الأردن، وغالبية إن لم يكن جميع الدول العربية، التي يتم فيها إيجاد مؤسسة وطنية تتولى نشر ثقافة حقوق الإنسان في الاردن وفقا للاتفاقيات الدولية المقرة في هذا المجال، ولعلها المرة الأولى التي تتولى فيها مؤسسة وطنية أردنية حمل شكاوى المواطنين الأردنيين إلى المسؤولين لمعالجتها على صعيد انتهاكات حقوق الإنسان (وتفاعلات تقرير المركز حول أوضاع السجون في الأردن ليس ببعيد عنا). إضافة إلى كل ذلك، فهي بالتأكيد المرة الأولى التي تصدر فيها مؤسسة وطنية أردنية تقريرا شاملا، ولا نقول كاملا، عن أوضاع حقوق الإنسان في الأردن (تقرير أوضاع حقوق الإنسان في المملكة الأردنية الهاشمية خلال الفترة 1/6/2003-13/12/2004، والصادر في 13/5/2005)، يرفع إلى جلالة الملك، ومجلس الوزراء، ويقدم إلى وسائل الإعلام في آن.

     الحكومة مازالت تدرس التقرير، لكن هذا التقرير يمكننا، من ناحية أخرى، من تقويم دور مؤسسات المجتمع وقادة الرأي فيه على صعيد دعم مسيرة المركز كجزء من دعم مسيرة حقوق الإنسان في الاردن، والسؤال هنا: لماذا لم يلق التقرير الاهتمام الكافي، نقدا أو إطراء، وبقي الحديث عنه متناثرا حد الغياب والتجاهل، فيما يتم تلقي تقارير مؤسسات أجنبية، بعضها يثار حوله الكثير من التحفظات والشكوك، بالكثير من الاحتفالية، إن اغتباطا أو حنقا؟!

    بالتأكيد لم يكن التقرير مثاليا، لكن هذا مما يحسب له لا عليه. فهو جاء محاولة وطنية أولى، حملت معها حداثة التجربة والخبرة، ولم يكن وسيلة لاستنساخ ما سبق، وإلا لما كنا نحتاج إليه ولا إلى المركز ذاته. وقد كنا نتوقع أن يثير التقرير جدلا محليا، لا إقليميا ولا دوليا، يصب في النهاية في خدمة الأردن وإنسانه.

     الجانب الآخر لما يسجل للمركز الوطني على صعيد "توطين حقوق الإنسان" في الأردن، والذي هو في الواقع سبب هذا الحديث الآن، أمكن لي إدراكه في النشاط الأخير الذي عقده المركز، يوم الثلاثاء الماضي، لتقويم أحدث إصداراته، وهو "دليل تدريبي حول الحقوق المدنية والسياسية لطلبة الجامعات". فورشة العصف الذهني تلك كانت مناسبة، ولربما هي الأولى بالنسبة لي، للاستماع والحديث إلى بعض من نخبة الأردنيين والأردنيات المؤمنين والمؤمنات -عن حق- بقضية حقوق الإنسان كضرورة وطنية، وأغلبهم من الشباب، من العاملين في المركز الوطني أو من خارجه. والواقع أن ما كان يميز بعضهم عن "الخبراء" الأجانب الذين اعتدنا الأخذ عنهم في هذا المجال هو روح الحرص على الأردن الوطن، لا الشفقة التي قد تكون أقصى ما نجده عند أولئك "الخبراء" الغربيين. فالخبراء الأردنيون كانوا يتحدثون عن واقع يعايشونه ويشعرون به، ولأجل وطن يحبونه وينتمون إليه.

    يصر القائمون على المركز، وبشكل ينطوي على الكثير من الإيجابية، بأنه مركز "وطني"، أي لا هو بالحكومي ولا هو بالمنظمة غير الحكومية، بعبارة أخرى، هو أردني بالمعنى الأوسع للكلمة، ينتمي إلى المجتمع كما ينتمي إلى الحكومة، طالما أن الهدف هو مصلحة الأردن ككل. لكن تجسيد هذا الجوهر الإيجابي، ولربما المركزي والاهم، مرتبط بجهود الأطراف كافة، المركز الوطني لحقوق الإنسان، والحكومة، والمجتمع. ونجزم أن عصب تحقيق هذا التفاهم في الجهود مناط بالمجتمع، أفرادا ومؤسسات؛ فإحدى أهم أدوات النهوض بالمركز الوطني لحقوق الإنسان تتمثل في إشعاره بالمسؤولية والعبء الملقى على عاتقه من قبل المجتمع، الأمر الذي لابد وأن ينعكس على أدائه، وبالتأكيد مستوى القائمين عليه، بطريقة إيجابية، ويعزز من موقفه – بالنتيجة- في تعاونه أو مواجهته مع السلطة التنفيذية كما التشريعية والقضائية.

[email protected]