جسر على البحر

لو كان المرء كاتبا روائيا، أو واحدا من المشتغلين في حقل الخيال العلمي، لاغتبط كثيرا باهتدائه إلى العنوان المشوّق أعلاه، نظرا لما قد يثيره تعبير "جسر على البحر" من خيالات خصبة وتوقعات مفرطة، وما قد يحفز عليه من قراءة وحب استطلاع، وربما رغبة في الاستزادة من جديد الأفكار.اضافة اعلان
ذلك أن الجسر في حد ذاته، مجرد قنطرة وصل بين ضفتي نهر، أو عبّارة ثابتة على واد عميق بين جبلين. وقد كانت القنطرة الحجرية القديمة قدم اكتشاف العجلة، السابقة حتما على اختراع المركبة المدفوعة بالجر، مبتدأ التنقل والتواصل الإنساني، ورافعة المبادلات العينية والمعرفية الأولية، وكانت أيضا فاتحة الغزوات البربرية والحروب التوسعية، حيث لم ينافسها في كل ذلك سوى السفن في عرض البحار.
وبقدر ما كانت الموانع الطبيعية، في الأزمنة السحيقة، كالأنهار والبحار وسلاسل الجبال، عقبات كأداء أمام غزوات القبائل والجيوش، بقدر ما يسرت الجسور البدائية دروب الهيمنة والاسترقاق والاحتلال، وغير ذلك من الغايات، التي ظلت تتجدد مع الوقت، وتتطور كلما زادت احتياجات الدول الحديثة إلى الهيمنة وفرض النمط وتسويق السلع، إن لم نقل النهب والسلب، وفق ما تجلى عليه الأمر لاحقا في عصر الاستعمار.
لقد تمكن الإنسان عبر تطور مهاراته من التغلب على العوائق البرية ببناء الجسور الخشبية والحجرية والمعدنية، واجتاز البحار العظيمة بتشييد السفن والمراكب مختلفة الأحجام والأنواع، إلا أنه وقف عاجزا عن الجسر عليها، إلى أن تمكن مؤخرا، وبفضل تقدم علوم الهندسة والتقنيات الحديثة، من قهر هذا المانع الرهيب، لاسيما بين الجزر المتقاربة في أرخبيل بعض الدول المتقدمة كاليابان.
على هذه الخلفية المعرفية الأولية شبه المدرسية، قاربت خبر الاتفاق المفاجئ على إقامة جسر فوق البحر الأحمر بين السعودية ومصر، من زاوية متفائلة وإيجابية، ترى فيه حدثا يفوق في أهميته كل ما يجري الحديث عنه من عوائد كبيرة في مجالات التجارة والاستثمار، ناهيك عن خدماته الثمينة للمسافرين والسياح والحجاج والمعتمرين، وعن آفاقه الواسعة وثماره المستقبلية اليانعة على شعبين عربيين كبيرين.
ذلك أن إقامة جسر على البحر هو في حد ذاته إنجاز بشري يحسب لكل الذين وقفوا خلفه، ساسة ومهندسين ومدراء أعمال وخبراء، إنجاز يرقى إلى مصاف فنتازيا الخيال الروائي، ينقل الفكرة من حيّز الإبداع المحلق عاليا إلى ضفاف الواقع الملموس، ويترجم الإرادة، التي هي أس كل تطور في كل منحى من مناحي الحياة، إلى أفعال ترى بأم العين، خصوصا إذا توفرت لها الأرضيات المناسبة، وتضافرت معها الإمكانات المالية والتنظيمية، وتم تذليل الصعاب المختلفة.
قد تكتب المطولات في مديح هذا الجسر، الذي داعب خيال المطورين والسياسيين وذوي الاختصاص منذ سنوات طوال، كونه الرابط بين قارتين، وصلة وصل بديلة بين جناحي العالم العربي، بعد قيام إسرائيل، وأداة اتصال قد تخدم غايات أخرى غير معلنة، مثل تسهيل نقل الجيوش وحشد الحشود إذا لزم الأمر. إلا أن ذلك كله، وعلى أهميته، لا يفي هذا "الكوبري" حقه، ولا يشف عن كامل دلالاته السياسية المضمرة، كونه إشارة قوية على بداية زمن عربي جديد.
وإذا كان من حق المصريين والسعوديين الاحتفاء كثيراً بمشروع هذا الجسر متعدد الأغراض، والتهليل لما ينطوي عليه من عوائد استثمارية وتنموية وحضرية وغير ذلك الكثير، فإن لنا نحن المنقبون عن كل نأمة تفاؤل صغيرة، وعن كل ضوء ضئيل في نهاية النفق العربي الطويل، أن نشارك المحتفين والمستفيدين ابتهاجهم بإنشاء هذا الجسر، الذي قد يؤسس لجسر سياسي عريض، ونقطة اتكاء لعمل استراتيجي في مستقبل غير بعيد؟
قد يكون من المفيد إشاحة الوجه عن الثرثرات المتعلقة بمسائل الملكية والسيادة والسيطرة على الجزيرتين الواقعتين في فم الخليج، لصالح إثارة النقاش حول قضية الأمن القومي، والقوة العربية المشتركة، والتحالفات الجديدة، التي سوف يرسي لها هذا الجسر حجر الزاوية، ويفتح أمامها بابا واسعا، إذا ما أريد للعالم العربي أن ينتقل من فيض الكلام إلى الفعل الحقيقي.