فوضى المعايير انقلاب على المصلحة العامة

الدكتور سيف زياد الجنيدي

لم أكن أتصور في هذه المرحلة المُبكرة من عمري –إلى حد ما- أن انغمس في ترقب أنماط فوضى معيارية تمس مفهوم الحق بالعمق بهذه الدرجة، ليست مجرد فوضى عابرة بل فوضى ممنهجة إلى درجة الإساءة للمعنى الحقوقي للقانون، والأشد ضراوة من التصرفات ذاتها تغنيها بتحقيق المصلحة العامة.اضافة اعلان
أجد اليوم في القطاع العام ممارسات تطمس معالم الشأن العام، وتستشرف أوضاعا مستقبلية لتحقيق منافع شخصية في جوهرها سعي مَرضي نحو وهم النفوذ، وبناء تكتلات بشرية زبائنية لمُحاولة شرعنة أوضاع قائمة فاقدة للمشروعية بأنماط تبريرية سطحية، ما يؤدي إلى إفراغ مؤسسات ذات أهداف سامية من رسالتها الوطنية، لتضحي بهذا مجرد هياكل إسمنتية ساكنة يملؤها ضجيج الفراغ وعتمة الخذلان.
ضمان تحقيق المصلحة العامة في ممارسات العاملين في القطاع العام اليوم تتطلب تعزيز سيادة القانون ومبادئ دولة الحق التي نادت بها الورقة النقاشية السادسة لجلالة الملك بعنوان “سيادة القانون أساس الدولة المدنية”، التي رسمت روئ تقدمية لدولة عادلة، تضمنت الورقة النقاشية هذه التالي :”وهو –أي سيادة القانون- الأساس الحقيقي الذي تُبنى عليه الديمقراطيات والاقتصادات المزدهرة والمجتمعات المُنتجة، وهو الضامن للحقوق الفردية والعامة، والكفيل بتوفير الإطار الفاعل للإدارة العامة، والباني لمُجتمع آمن وعادل… أقول هذا لأنني أعرف من التجربة أن كل فردٍ يقبل ويتبنى مبدأ سيادة القانون من الناحية النظرية، ولكن البعض يظنون أنهم الاستثناء الوحيد الذي يُعفى من تطبيق هذا المبدأ على أرض الواقع، بغض النظر عن المكانة أو الرتبة أو العائلة، فإن مبدأ سيادة القانون لا يُمكن أن يمارس بانتقائية”.
تترجم الأفكار الملكية لمفهوم سيادة القانون بمنهج يكفل ضبط فوضى المبادئ والمعايير في القطاع العام على وجه الخصوص من خلال أربعة مرتكزات أساسية، المرتكز الأول: إدماج الثقافة الحقوقية في المناهج التعليمية للمدارس والجامعات، ورسم استراتيجيات لتعزيز مفاهيم المواطنة الفاعلة منذ الصغر. المرتكز الثاني: ترجمة مبدأ الكفاءة لإشغال وظائف القطاع العام وفقا لمبادئ الحوكمة الرشيدة. المرتكز الثالث: ضمان البلوغ والوضوح والمفهومية في الصياغة التشريعية باعتبارها مبدأ دستوريا لارتباطه بقاعدة العلم المُفترض بالقانون، ومبدأ المُساواة الدستوري والعالمي. المرتكز الرابع: استمرارية البناء في مأسسة نظام قضاء إداري نهضوي يتبنى مبدأ القضاء المزدوج بمنهج يكفل استقلالية القضاء الإداري عن القضاء النظامي، وما يتطلبه هذا من إنشاء برنامج خاص في المعهد القضائي يعنى بتدريب وتأهيل قضاة إداريين متخصصين على اعتباره قضاء مبادئ ومعايير حقوقية بصورة تواكب مُستجدات العصر والظروف المُستحدثة، على أن يؤخذ بعين الاعتبار إمكانية رفد القضاء الإداري بأساتذة جامعيين من ذوي الاختصاص والخبرة من جهة، يضاف إلى هذا من جهة أخرى استحداث تصنيف المحامي المتخصص بالقضاء الإداري في نقابة المحامين لا مجرد اعتباره جزءا من مزاولة المهنة النظامية.
بين سيادة القانون والمصلحة العامة عبق تاريخ مليء بالتجارب الإنسانية والتضحيات التي أسست دولة ذات نظام سياسي شرعي دينيا ومواثيقيا، هذه الحقائق التاريخية يجب أن تعظم حس المسؤولية بالدفاع عن المصلحة العامة، ومجابهة أنماط الانقلاب على مفهوم الشأن العام ليس باعتبارها مجرد مخالفات قانونية، وإنما لارتقائها إلى مرتبة الإساءة للمبادئ التأسيسية، والاعتداء الصارخ على الاستقلال بمدلولاته التاريخية المُؤسِسة للدولة، وصولا للقول “الانقلاب على المصلحة العامة خيانة للوطن غير مشروطة بالضرر”.