الصين: استبداد حميد..؟!

في الوضع المثالي، ليس ثمة «استبداد» حميد. في المعجم العربي «استبدَّ الشَّخصُ بالأمر: تعسَّف، انفرد به مِن غير مُشاركٍ له فيه». ولسنا في العالم العربي في حاجة إلى معاجم لنعرف ما يعنيه الاستبداد عياناً وخبرة حياة. لكن ثمة عبثاً واضحاً بمعنى الاستبداد في السياسة العالمية حين يُذكَر باعتباره النقيض لما تسمى «الديمقراطية الليبرالية» الغربية. وكثيراً ما نطلق نحن، المزدرين لأنفسنا والمتطلعين إلى نموذج خارجي، حكما تعسفياً دائماً تقريباً لصالح الصلاح الغربي وضد الشر الصيني والروسي. كيف لا والشيوعيون «كفار» لا نشترك معهم في شيء، بينما الغربيون معارف وأصحاب قيَم، والأوصياء علينا منذ زمن؟اضافة اعلان
في الحقيقة، كان أصحاب «التنوير» والثورة على الظلام والديمقراطية والليبرالية هم الذين جعلونا نعرف ما هو الاستبداد. لقد استعمرونا واستعبدونا، ونهبوا ثرواتنا، وناصروا أعداءنا، وفعلوا كل شيء لإفقارنا وإضعافنا، وجعلوا أي شيء شبيه بالحرية أو حكمنا لأنفسها مسعى مستحيلاً دونه الدم والعذاب. ومع ذلك، ننظر إليهم حيث يستبد عندهم غالباً أحد حزبين، كلاهما يعكفان على استهدافنا، ويقول قائل منا: «انظروا إلى الحريات وشاهدوا ما هي الانتخابات، الناس يقولون ما يريدون ويعيشون كما يشتهون»!
في خطاب الغرب السائد عندنا مثلما هم أصحابه علينا، الصين هي الاستبداد نفسه مجسدا في العالم. إنها يحكمها حزب واحد بلا منافس. إنها دولة المراقبة (وكأنما ليس هناك في الغرب وفلكه مراقبة). إنها تقمع المسلمين الأيغور (وكأن أحداً آخر لا يستهدف المسلمين، وغير المسلمين إذا كان ذلك يهم). إنها تريد أن تتسيد العالم (وما ينبغي ذلك لغير الولايات المتحدة، ملاك الحرية الحارس القلقة على مصائر الناس وحفظ إنسانيتهم)، بينما الصين سترعى الأنظمة المستبدة لأنها تشبهها. وثمة أنظمة عربية تنتقد الصين على استبدادها المتصور، وتأنف من التعامل معها لأنها غير ما نمثله نحن وجماعتنا في الغرب حين يتعلق الأمر بالحضارة وحقوق الإنسان.
لا شك أن الحكم في الصين استبداد لا جدال فيه، وفق تعريف المعجم أعلاه. ولا شك، في رأيي، أن الحكم في الغرب استبداد لا جدال فيه، سواء كان استبداد الحزب الفائز بالذين لم ينتخبوه، أو استبداد أي حزب فائز بنا نحن. والكثير من أدبيات الألفية الجديدة، على الأقل، تُراجع الديمقراطية والليبرالية ونتائجهما، فتجد الشكوى من اللامساواة، واستئثار النخبة النافذة بالمال والامتيازات، والعنصرية والتفوقية، وكراهية الأجانب، ورفض التعددية الثقافية، والتدخل السافر في الشؤون الداخلية للضعفاء –بالجيوش حيث يلزم- والالتزام بإدامة الهيمنة، والكثير من الشرور.
عن الصين، يقول تقرير في مجلة «الإيكونوميست» غير محايد قطعا تجاه الصين ويبحث أساسا عن العيوب: «حكم حزب واحد الصين طوال 72 عاما من دون تفويض من الناخبين… ولكن لم تكن أي ديكتاتورية أخرى قادرة على تحويل نفسها من كارثة تضربها المجاعة… إلى ثاني أكبر اقتصاد في العالم، والذي جعل تفوقه التقني وبنيته التحتية المتطورة من الطرق والسكك الحديدية المتصدعة في أميركا عارا. إن الشيوعيين في الصين هم أنجح المستبدين في العالم».
ويضيف التقرير أن من أسباب نجاحات الحزب الحاكم في الصين أن «الصين لم تتحول إلى نظام كليبتوقراطي مباشر يمتص فيه ذوو الصلات والعلاقات الجيدة الثروة لأنفسهم بشكل حصري. وقد انتشر الفساد بالفعل، وأصبحت العائلات الأكثر قوة فاحشة الثراء حقا. لكن الكثير من الناس العاديين شعروا بأن حيواتهم تتحسن أيضا، وكان الحزب ذكيا بما يكفي لإدراك حاجاتهم ومطالبهم والاعتراف بها وتلبيتها. وقد ألغى الضرائب الريفية وأنشأ نظاما للرعاية الاجتماعية يوفر للجميع معاشات تقاعدية ورعاية صحية مدعومة من الحكومة».
إن استبداد الحزب الحاكم في الصين، كما يعترف التقرير، هو استبداد حميد إذا كان يعني إخراج الملايين من ربقة الفقر وتحسين معيشتهم. إنه –إذا جاز التقدير- من نوع الذي يأخذ ويُعطي ويستفيد ويفيد؛ من النوع الذي يُنهض في الصينيين عاطفة الفخر الوطني والتباهي، والذي لا يمتص فيه ذوو الصلات الثروة لأنفسهم بشكل حصري ويُسلمون مواطنيهم إلى الفقر والتخلف والتبعية والذل. إنه استبداد لا لم يستهدفنا ولم يحتل بلادنا ولا يُعين علينا مضطهدينا. وإذا كان الأمر كله استبدادا في استبداد، فحبذا لو أننا نستلهم «استبداد» الصين، الحميد!.