إشكالات ومقترحات في سياق التعلم الإلكتروني عن بعد في الجامعات

لن أدخل في جدلية الإطار والمضمون لدى المفكرين عن جدوى التعلم الإلكتروني عن بعد في مؤسسات التعليم العالي. فهذا موضوع شائك ويطول شرحه. سأركز على محور التعلم الإلكتروني في الجامعات الأردنية خلال الجائحة وبناء على دراسة قيد الإعداد. لهذه اللحظة لا يوجد مشهد موحد في وصف واقع الحال الذي شهدته وتشهده الجامعات في الأردن في ظل الجائحة. وهذا مآله وجود تفاوت وفروقات في الأداء والإجراءات والنتاجات والمخرجات بين الجامعات، منبثقا عن تفاوت في مدى جاهزية واستعداد ومرونة هذه الجامعات للتعامل مع فجائية الجائحة وتداعياتها. وأوجز أهم الفروقات في الآتي: 1 - بينما كان التعلم الإلكتروني خيارا استراتيجيا لبعض الجامعات التي تمكنت من تبني هذا النهج ومنذ سنوات، بحيث شرعنت لفلسفة وأدبيات هذا الشكل من التعلم، كانت تجربة التعلم الإلكتروني خلال الجائحة للبعض الآخر تجربة انصياعية لأوامر الدفاع بالدرجة الأولى. 2 - بنيوية النظام البيئي للجامعة لعبت دورا مهما بكل مكوناتها، إما من خلال مرونة التحول أو من خلال التصارع مع التحول والتخبط والتعثر. فمثلا: البنية التشريعية من قوانين وأنظمة وتعليمات وأسس ومدونات كانت شبه مكتملة عند القلة من الجامعات ومفقودة تماما في معظم الجامعات. والبنية التحتية hard and soft من المنصات التعليمية LMS أو حتى CMS كانت لربما مُمأسسة عند بعضهم ومفقودة عند آخرين، ما أوجد فروقات جمة بين الجامعات في أداء التعلم الإلكتروني، فمنهم من استطاع البدء مباشرة مع الطلبة بأريحية ومنهم من تأخر وتعثر في البدايات مما أوجد فاقدا تعليميا ومعرفيا عند طلبة في تلك الجامعات. وهذا بالتأكيد يتطلب خططا جادة تعمل على جسر أي فجوة معرفية أو تعلمية لهؤلاء الطلبة وبرنامجا تعليميا تعويضيا. 3 - بالنسبة لبنية الموارد البشرية في الجامعات هناك إشكالية في كثير من الجامعات تتجسد في كيفية تعامل الهيئة التدريسية مع التعلم الإلكتروني. فما تزال العملية في مجملها تعليما وليس تعلما، منبثقا في جوهره عن محاضرات تعطى إلكترونيا وليس من خلال منصات تعلم يكون الطالب شريكا في صنع معرفته والتفاوض معها وإدارتها؛ فأغلبية الهيئة التدريسية في الجامعات، باستثناء قلة، ليست مؤهلة ومهيأة للانتقال إلى فلسفة التعلم من خلال اتقان النظريات لهذا الشكل من التعلم وإتقان استراتيجياته وأدواته وآلياته المرتبطة بالـConnectivisim كنظرية تعلم الكتروني، أو مرتبطة بالأطر الأربعة المستجدة للتعلم المدمج الذي يضمن تعلماً مستداماً للطلبة. وغياب هذه المعرفة والقدرات والمهارات عند الهيئة التدريسية في الجامعات سيخلق تلقائيا غيابا لتحقق المهارات والقدرات والقيم للطلبة. فيكون الفاقد للطلبة هنا فاقدا مهاراتيا وقدراتيا وقد يكون أيضا قيميا. وأذا أردنا أن نلعب دورا تحوليا في المشهد التعليمي الحالي من خلال استثمار فرص التعلم الإلكتروني و/أو المدمج لبعض البرامج الجامعية المتاحة للطلبة داخل الأردن وخارجه فهذا يتطلب بالضرورة إعادة النظر بنوع المنتج من معارف ومهارات وقدرات وسلوكيات تخرج من الجامعات إذا «أرتأت» هذه الجامعات أنها ترغب بلعب أدوار جوهرية تمكن فيها مكونات المجتمع من احتراف الأداء والحكمة في إبرام العلاقات الاجتماعية وجسر فجوات الأداء والأخلاق. 4 - بنية الأمن السيبراني كانت متاحة للجامعات بشكل فردي ولكن لم تكن متاحة كشبكة أمن سيبرانية مشتركة وشاملة لحماية المعلومات والتطبيقات والإجراءات من أي اختراقات للبنية السيبرانية البيئية والمؤسسية. وهناك حاجة لشبكة حماية سيبرانية تخدم كل مؤسسات التعليم العالي، كما كان هناك بعض التحديات عند الجامعات تمثلت في عدم القدرة على التعافي من هذه الخروقات. 5 - خلو البنية التقييمية في الجامعات في مجملها من استراتيجيات التقييم المعاصر الذي يبني عادات التفكير المعاصر والتأمل العميق وسلوكيات الأداء الفاعل وأخلاق الممارسة المهنية. فما تزال بنية التقييم في مجملها تركز على استحضار المعلومة أكثر من استحضار ملكات العقل لحل المشكلات وتنفيذ المشاريع والتفسير والتحليل والتأويل الحكيم والنقد البناء والمسؤول الذي يُبنى في مساحات عقلية تعشق التعلم. فالتقييم في عصرنا يجب أن يكون هدفه نقل المتعلم الى مهارة التنقل من مفهوم لآخر ومن مدرسة فكرية الى أخرى برشاقة وسلاسة بعيدا عن الهواجس والأوهام. ويأتي ليعزز إتقان إدارة الوقت عند الطلبة وتنظيم مشاعرهم وانفعالاتهم واختلافاتهم وتعدديتهم خلال عملهم الجماعي، وتحكيم المرجعيات الأخلاقية والمعرفية لإعادة تركيب أنماط تعلمهم باستمرار وإنتاجه لينسجم مع زمن التحولات السريعة والمتتابعة. الطلبة في معظم أنحاء العالم تعرضوا الى مأزق أخلاقي عندما كان الغش عند الكثيرين من الطلبة خياراً وجودياً في امتحانات اتبعت الأسلوب التقليدي لاستحضار المعلومات وحفظها في زمن الجائحة. هذه نقطة مهمة تُبرز خللا في منظومة التقييم وفي كيفية قياسها للنتاج التعليمي التعلمي. والفاقد هنا فاقد أخلاقي بامتياز، فمنظومة التعليم العالي في العالم وضعت الطلبة أمام مأزق أخلاقي وامتحان للقيم حتم عليهم خيارا غير أخلاقي. 6 - هناك أيضا البنية الاجتماعية والنفسية في أي منظومة تعليمية والتي هي مغيبة عند التحدث عن التعلم الإلكتروني وعند تحليل المشهد بمجمله. وهناك دراسات عديدة بينت التداعيات النفسية والعقلية عند انتقال الطلبة والهيئة التدريسية من التواصل والاتصال الذي تطور عبر آلاف السنين، ثم تحول من مساحات مكانية الى مساحات افتراضية. وهناك مجموعة من العوارض النفسية لهذا التحول، منها الإرهاق والعزلة وضمور الحماسة والشغف للتعلم والتعثر في إدارة الوقت التي قد تصل حد اللامبالاة. وهذا فاقد نفسي بحاجة الى إدارة ومتابعة كي لا تصل الأمور حد الاضطراب. أما بالنسبة للفاقد الاجتماعي فمنبعه الفجوة الرقمية والمواردية بين الطلبة. الطلبة الذين يجدون أنفسهم مكبلين في تعلمهم الإلكتروني بسبب عدم قدرتهم على الولوج الى المنصات التعليمية لأنهم لا يقدرون على تغطية النفقات الجمّة للتعلم. أضف الى هذا كله الشريحة المهمة جدا والمهمشة من ذوي الإعاقة والاحتياجات الخاصة التي لم تتمكن من العبور إلى هذه الخدمات من خلال المنصات الإلكترونية والتي هي، ولغاية اللحظة، غير حاضنة لذوي الإعاقات والاحتياجات. مشاكل وتحديات كبيرة في الجامعات تتراوح ما بين مخرجات جامعية قد لا تفي احتياجات المرحلة التحولية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية مرورا بغياب واضح للحياة الجامعية واندماج الطلبة بها لتنميتهم بالشكل السليم والأخلاقي والصحي. إنّ خدمات التعليم المقدمة من الجامعات للمجتمع بحاجة الى تحديث وتوطين في إطار مُعاصر يأخذ المستجدات البناءة بعين الاعتبار.اضافة اعلان