الفكرة المرعبة عن الإنسان الأخير

عام 1989 ظهر فيلسوف سياسي أميركي من أصول يابانية اسمه فرانسيس فوكويوما على صفحات مجلة ناشيونال انترست بنظرية تحت عنوان "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" والتي لاقت جدلا كبيرا جعلته يتوسع بها في كتاب تحت ذات العنوان.

اضافة اعلان


برز نجم فوكوياما مذاك، وأنا كنت يافعا أقرأ الجرائد في زمن الصحافة الجميل قبل الانترنت، حين كانت تقدم ترجمات الصحف والمجلات العالمية، وقرأت نظريته "مترجمة" في صحيفة أردنية ذلك العام.


طبعا، بهرتني النظرية التي تتحدث عن انتصار الليبرالية الديمقراطية الغربية لكن مع تنبؤات مرعبة بزوال علوم الإنسانيات وسيادة العلوم الطبيعية والآلة، بل إن فوكوياما تنبأ بوضع التاريخ والآداب والثقافات في متحف التاريخ على أسس منهجية هيغلية في قراءة التاريخ كتعاقب ايديولوجي للأحداث لا تتابع اعتباطيا لتلك الأحداث.


الفكرة كانت مرعبة في زمن كنا مبهورين فيه باختراع الفاكس والهاتف الأرضي اللاسلكي، ولم نكن نتخيل ثورة تكنولوجيا معلومات سرعتها أكبر من الإدراك الطبيعي كالتي نعيشها اليوم، لنجد أنفسنا فعلا أمام حالة مقاربة جدا لما تنبأ به فوكوياما.


لكن فوكويوما الذي جدد أفكاره عام 2002 بكتاب مستقبلنا بعد البشري: عواقب ثورة التقنية الحيوية، يجادل فيه محذرا من أن التكنولوجيا الحيوية تسمح للبشر بسيطرة مباشرة على تطورها الطبيعي، وقد تسمح بتعديل طبيعة الإنسان وهو ما يعرض الديمقراطية الليبرالية للخطر، ووصف فوكوياما "البعد إنسانية" بأنها من أخطر الأفكار في العالم، وحسب فوكوياما فإن البعد إنسانية موجودة ضمناً في كثير من جداول أعمال البحوث البيولوجية المعاصرة، التكنولوجيات الجديدة الناشئة من مختبرات الأبحاث والمستشفيات سواء عقاقير تغيير المزاج، مواد زيادة كتلة العضلات، عقاقير محو الذاكرة الانتقائية، الفحص الجيني قبل الولادة وكلها يمكن بسهولة أن تستخدم لتعزيز القدرات البيولوجية للبشر وتخفيف حدة الأمراض ويجادل فوكوياما بأن المجتمعات قد لا تقع فريسة سهلة لنظرة دعاة بعد الإنسانية ولكنهم قد يقعون في شراكها دون إدراك، نظرا للمغريات البيولوجية التي يقدمونها بثمن أخلاقي فادح.


مثلا وحسب صاحب نظرية نهاية التاريخ فإن الفكرة الكامنة وراء المساواة في الحقوق هي الاعتقاد بأن جميع البشر يمتلكون جوهر الإنسان الذي يقلل من قيمة الاختلافات السطحية مثل لون البشرة، الجمال، وحتى مستوى الذكاء. هذا الجوهر الذي يفيد بأن لكل البشر قيمة متأصلة، (وهو قلب الليبرالية السياسية)، ولكن تعديل هذا الجوهر هو أساس مشروع ما بعد الإنسانية. إذا ما حاول الإنسان أن يجعل من نفسه أكثر تفوقاً بيولوجياً، تتراود أسئلة عن نوعية الحقوق التي سيطالب بها هؤلاء البشر المتحولون مقارنة بالذين لم يحظوا بنفس الفرص ليجعلوا من أنفسهم بشراً خارقين.


أقرأ فوكوياما وعندي قلق من واقعية الرؤية في كثير مما يقوله وأنا اقارنه بما أقرأ من أخبار تتوارد يوميا حول الذكاء الصنعي أو الاختبارات الجينية أو شريحة إيلون ماسك المزروعة في جسم الإنسان، وأربطها بتلك النيوليبرالية المتوحشة المتطرفة التي تحاول أن تنزع "الإنسانيات البديهية " كما عرفتها البشرية منذ بدايتها لتطوعها ولو بالغصب إلى مفاهيم وقيم مخيفة ومرعبة جديدة.


لكن، ربما ما تزال البشرية "بحكم غريزتها الأصلية" تملك القدرة على المقاومة إلى ما شاء الله.

 

للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنا