الميناء..!

‏‏أثار الإعلان الأخير عن خطة الولايات المتحدة لبناء ميناء بحري في غزة موجة من التكهنات والشكوك. وفي الحقيقة، يحق للمحللين والمواطنين الشك في نوايا الولايات المتحدة بشأن الميناء، لأنها لم تفعل –ولا يبدو أنها يمكن أن تفعل الآن- أي شيء يمكن أن يخدم مصالح العرب –وخاصة الفلسطينيين. بل إنها تشارك الآن بنشاط، وفق معظم التقديرات، في حملة الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الفلسطينيون. فلماذا يمكن أن تريد إطعامهم أو إغاثتهم؟

اضافة اعلان


‏ثمة التنافر الواضح نفسه بين «قلق» الولايات المتحدة المعلن بشأن محنة الفلسطينيين في غزة ودعمها المستمر للمساعي العسكرية للكيان. وعلى الرغم من التصريحات المتكررة من الرئيس بايدن ووزير خارجيته وبقية المسؤولين الذين يصفون الوضع الإنساني المزري في غزة، تصر الولايات المتحدة على تزويد إسرائيل بالأسلحة والذخيرة، وتستمر في تغطية جرائمها باستخدام حق النقض لعرقلة قرارات الأمم المتحدة التي تدعو إلى إنهاء الصراع في القطاع.


يعرف الجميع أن الولايات المتحدة تمتلك الوسائل اللازمة لإيصال المساعدات إلى غزة عبر الطرق البرية بالنظر إلى نفوذها الكبير على الكيان الصهيوني. ولا يشك أحد مطلقًا في أن قوات الكيان لن تهاجم تحت أي ظرف شاحنات ترفع العلم الأميركي أو تكون تحت حماية الأميركان. كما تستطيع الولايات المتحدة فرض عدم التعرض لشاحنات تأتي من معبر رفح أو أي مكان آخر، وكذلك منع التعرض لوكالات الإغاثة الأممية التي تعمل في القطاع. وإذا كان هذا التصور منطقيًا كما هو، فلماذا الحاجة إلى طريق بحري؟‏ وهل من المأمون وجود قوات أميركية في مياه القطاع؟


من الملفت أن مسؤولين من الكيان عبروا عن دعمهم للمشروع الأميركي. وتشكل هذه الموافقة في حد ذاتها سببًا وجيهًا للشك في الدوافع. لا يمكن أن يقبل الكيان بشيء ينفع أهل غزة أو يساعدهم على البقاء، خاصة في ضوء استهداف كل حي في غزة بالقتل من أي عمر وجنس. كما أن الأساس المنطقي وراء توقيت هذه المبادرة وإلحاحها يتقاطع مع مناورات الولايات المتحدة لتغطية إنجاز الأهداف التي يعمل لتحقيقها الكيان، ومنها التدمير الكامل للبنية التحتية اللازمة للحياة في القطاع، وقتل أكبر عدد ممكن من سكانه بكل وسيلة ممكنة. ويرى مراقبون أن الجدول الزمني المتوقع لبناء رصيف الميناء متأخر جدًا مع وجود آلاف الفلسطينيين على شفا المجاعة. وكانت الولايات المتحدة قد أشرفت منذ خمسة أشهر الآن على تسهيل تجويع الفلسطينيين حتى الموت، ولم تفعل أي شيء مما تستطيع فعله لتجنب هذه النتيجة.


نشرت صحيفة «الجيروسالم بوس» في 10 آذار (مارس) خبرا حصريًا كتبه توفاه لازاروف، بعنوان: «مصدر دبلوماسي لـ’البوست‘: ميناء غزة البحري كان فكرة نتنياهو» – (حصري). وحسب الصحيفة، فإنه «وفقًا لمصدر سياسي لم تذكر اسمه، كان نتنياهو قد ناقش، في 22 تشرين الثاني (نوفمبر)، بعد أسبوعين من اندلاع الحرب، مع الرئيس بايدن مسألة «إيصال المساعدة الإنسانية إلى غزة». 


وحسب الصحيفة، «أوضح المسؤول السياسي أنه من خلال فتح خط السفن، تأمل إسرائيل في تحقيق عدة أهداف: الأول، هو استبدال وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) بمنظمة أخرى ستكون مسؤولة عن توزيع الغذاء».


والهدف الثاني، حسب المصدر المذكور، هو حرمان حماس من رمزها الحكومي المتمثل في أنها تمتلك القوة والسلطة لإطعام سكان القطاع، وبناء وعي بأن أطرافا أخرى هي التي ستتولى العناية بالغذاء وتضمن تدفقه المستمر». ونقلت الصحيفة عن المصدر قوله: «كلما زاد إغراق غزة بالمزيد من الغذاء، سوف ترتخي قبضة حماس عليها».


وقالت الصحيفة أن ثمة سببًا ثالثًا هو «تخفيف الضغط الدولي على إسرائيل باعتبار أنها الطرف الذي يُفترض أنه يحجب الغذاء عن سكان غزة، بل وحتى المسؤول عن «تجويعهم». وثمة سبب رابع هو إظهار تعقيد تحويل مسؤولية إيصال الإمدادات إلى غزة للأميركيين المسؤولين عن المشروع». أما السبب الأخير فهو «رفع العبء عن كاهل إسرائيل باعتبارها الطرف المسؤول عن جلب المساعدات الإنسانية إلى غزة». 


وحسب الصحيفة، أكد المصدر السياسي أنه «على الرغم من أن تقديم المساعدات لغزة يغضب الجمهور (الإسرائيلي)، فإنه ضروري لحفظ الرصيد الدولي الداعم للجهد العملياتي لجيش الكيان في غزة. وأضاف المصدر أن «إسرائيل ستخصص للمشروع الحد الأدنى الضروري من القوات لتشغيله حتى لا تُلحق الضرر بجهد الحرب».


في الوقت نفسه، ثمة من يرى أن إيصال أي قدر من الطعام لسكان غزة، مهما كانت الدوافع، يبقى أفضل من موت الغزيين جوعًا أمام آبائهم وأمهاتهم. وسواء كان بايدن يريد من رصيف الميناء أن يبيض صورته قليلًا من أجل الانتخابات، أو من تحسين صورة الولايات المتحدة الملطخة في العالم، فإن أي رغيف خبز يصل لجائع يستحق التسامح مع الأسباب. لكن هذا التصور يستدعي فكرة وضع السم في الدسم، ويثير جدالًا مستحقًا حول التسامح مع تناول طعام يحتمل كثيرًا أن يكون مسمومًا، بسبب الجوع.


أيًا يكن، سوف تبقى الدوافع الحقيقية وراء «الميناء» محجوبة وعائمة في محيط من عدم اليقين. والوقت وحده كفيل بإثبات ما إذا كانت هذه المبادرة يمكن أن تبدد الشك العميق، والمستحق، في دوافع أي عمل أميركي، من أي نوع، يخص الفلسطينيين.

 

للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنا