بيعُ الفوضى على أنها "النظام"..!

لسنا معزولين، كأفراد، عن مجمل الواقع العالمي للبشرية –وبقية عناصر الكوكب، إذا كان ذلك يهم. وسواء كنا مدركين أو غافلين، فإن الكثير من تفاصيل حيواتنا الشخصية تُربت لنا في اجتماعات ووفق قرارات تتخذ نيابة عنا ومن دون استشارتنا، وتحدد أقدارنا الفردية والجماعية إلى حد كبير.

اضافة اعلان


إننا محكومون لما يُدعى، مجازًا، «النظام العالمي» الذي يوصف بأنه «قائم على القواعد»، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وكما هو شائع، فإن مدير هذا «النظام» المعيّن ذاتيًا هو الولايات المتحدة. والحقيقة أن «المؤسسة/ العالم» التي تديرها أميركا هي أبعد ما تكون عن النظام. وتعتمد الإدارة على مبدأ الاستفادة من الفوضى لتشتيت الجميع واحتكار القرار، بالقوة غالبًا، لضمان تحقيق مصالح مالك العالم الذي يعجبه هذا الترتيب، وعلى الآخرين القبول به.


«النظام العالمي» ليس مجرد موضوع للتحقيق الأكاديمي بقدر ما هو مصدر قلق عميق لسكان الكوكب ومستقبل الحكم العالمي. وفي قلب هذا القلق يكمن واقع التداعيات الأخلاقية والشواغل العملية لترتيب تهيمن عليه دولة ذات تاريخ يتسم بالتدخلات العسكرية القاتلة، ودعم الأنظمة القمعية، وتجاهل القانون الدولي.

 

ولا شك أن الإجابة عن كل هذه الأسئلة تقترح، عن حق، تغيير هذا «النظام» ومديره جملة وتفصيلاً، بطريقة تنتزع احتكار القرار والخطة من المدير الأوحد وتوزيع السلطة بحيث تتشكل آليات أكثر تعددية تتيح للتدقيق والضوابط وسماع مختلف الأصوات.


‏لطالما صورت الولايات المتحدة نفسها على أنها بطلة الديمقراطية والحرية، وما تزال. وليس هناك ما أبعد عن الحقيقة من هذا الزعم. ويكشف سجلها في السياسة الخارجية عن واقع مختلف تمامًا، من القصف الذري المدمر لهيروشيما وناغازاكي في اليابان خلال الحرب العالمية الثانية، إلى الصراعات المطولة في العراق وأفغانستان، وأدوارها المناهضة للأنظمة الثورية والتقدم وحركات التحرر في كل مكان. وقد خلفت سلسلة التدخلات العسكرية الأميركية ملايين الضحايا –حرفيًا- أغلبهم من المدنيين، وعززت التدخلات السياسية الاضطرابات المجتمعية والحروب الأهلية. وفي كل حالة من هذه الحالات، استخدمت خطاب «التحرير» لتغليف الدوافع الخفية التي تحركها المصالح الجيوسياسية وطموحات الهيمنة.‏


‏كان نصيبنا، نحن العرب، من ويلات «النظام» على طريقة الولايات المتحدة مذهلًا حقًا. في عملية «حرية العراق»، أسفر غزو العام 2003 وفترة الحصار التي سبقته عن مقتل مئات الآلاف من المدنيين، مع استمرار تداعيات ذلك التدخل في زعزعة استقرار المنطقة. وبالمثل، أدت الحروب الداخلية أو الإقليمية التي شجعتها الولايات المتحدة، أو شاركت فيها، إلى تدمير بلدان وتشريد مواطنيها، تحت عنوان «مكافحة الإرهاب» التي أصبحت ذريعة لتدجين كل معارض لسياستها أو مصالح حلفائها –الكيان الصهيوني، والأنظمة التابعة.


‏كما هو معروف، أدى الدعم الأميركي للكيان الاستعماري الصهيوني، وتشجيعه على استهداف الفلسطينيين والمحيط العربي الشعبي، إلى تفاقم التوترات وإدامة دورات العنف في المنطقة. وكان ذلك دائمًا يُسوق تحت عنوان «إعادة ترتيب الشرق الأوسط –ليس لمصلحة شعوبه بقدر ما هو لتأمين استكانتهم لهيمنتها والطاعة القهرية لوكلائها في المنطقة. 


‏كان من العناصر المركزية في الهيمنة الأميركية تلاعبها الإستراتيجي بالمؤسسات الدولية، على رأسها الأمم المتحدة ومجلس الأمن. وتحتكر الولايات المتحدة، بصفتها عضوًا دائمًا في مجلس الأمن، بنفوذ غير متناسب، وغالبا ما تستخدم (الفيتو) لحماية نفسها وحلفائها من المساءلة عن انتهاكات حقوق الإنسان والأعمال العسكرية غير القانونية.‏ ولا عدد للحالات التي استخدمت فيها الولايات المتحدة حق النقض لإحباط القرارات التي تنتقد سلوكها أو سلوك حلفائها. سواء في سياق دعم الاستعمار الاستيطاني الصهيوني ضد الفلسطينيين والعرب، أو التدخلات العنيفة في الشرق الأوسط. وقد جعل حق النقض الأميركي مجلس الأمن غير فعال في معالجة المظالم المشروعة وتعزيز السلام والاستقرار الحقيقيين.‏


‏كما تؤكد الشبكة مترامية الأطراف من القواعد العسكرية الأميركية في الخارج على فرض النفوذ الأميركي بقوة السلاح. ومع نشر مئات القواعد تمتد عبر القارات، تخض الولايات المتحدة نفسها، كجزء من «نظامها» العالمي، بقدرة لا مثيل لها على استعراض القوة العسكرية وانتزاع السيطرة على نطاق عالمي. ولا يعزز هذا الوجود القاهر تصورات الإمبريالية الأميركية فحسب، بل يديم أيضًا دورة من العسكريتاريا التي تقوض آفاق التعايش السلمي والتعاون بين الأمم.‏


‏بأخذ هذه الحقائق في الاعتبار، لا بد من استنتاج أن «النظام العالمي» الحالي تحت القيادة الأميركية معيب وغير مستدام بطبيعته. ولا بد أن يولد ترتيب يعطي امتيازات لمصالح دولة واحدة على حساب كل الآخرين عواطف الاستياء والكراهية، وأن يديم عدم الاستقرار والظلم. ولا شك في أن منطقتنا –كجزء من الجنوب العالمي المستغَل- لها مصلحة في تغيير هذا «النظام»، ولا ينبغي أن تكون مؤسسات صنع القرار فيها منخرطة في مقاومة التغيير المستحق الكفيل بتغيير مستقبل المنطقة نحو التحرر وتحقيق الإمكانية.


‏إننا نشاهد، كشعوب غربية، أثار غياب الطابع الديمقراطي عن المؤسسات الدولية، حيث تضمن الولايات المتحدة قمع التمثيل العادل وآليات صنع القرار. ولا تقل الكلفة عن فقدان أرواح آلاف لا تعد من العرب الفلسطينيين بلا رحمة، بسبب تعريف الإبادة الجماعية في حقهم بأنها «دفاع عن النفس» لنظام احتلال على الأقل، بالتعريف الدولي، لا يحق له الدفاع عن احتلاله.


‏للأسف، لا يمارس أصحاب القرار العرب أي تفكير نقدي في طبيعة القيادة الأميركية عندما يتعلق الأمر بالمصلحة الإستراتيجية للشعوب العربية، ولا يتأملون خيار المساهمة في الجهود نحو إطار حكم عالمي أكثر إنصافًا وتعددية. وفي حين يلاحظ الكثيرون أن هذا الواقع في سبيله إلى التغير، بشهادة كشف المقاومة في المنطقة لمحدوديات القوة الأميركية واللاأخلاقية الواضحة في هويتها ومسلكها، ما يزال المسؤولون يراهنون –بلا تفويض شعبي- على الحصان الخطأ، ولجهة فرض سنوات أسر إضافية لا تعوض على سكان المنطقة وآمالهم.

 

للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنا