قرار لاهاي: انتصار تاريخي لفلسطين

في خضم الجدل الذي أثارته عملية "طوفان الأقصى" يوم 7 تشرين الأول (أكتوبر) حول الأرباح والخسائر، طرحت بقوة مسألة دور العملية الحاسم في إعادة القضية الفلسطينية من العراء. وفي الحقيقة، لم يقتصر الأمر على إعادة القضية إلى الضوء، وإنما تصدرت بطريقة لا تصدق المشهد العالمي وغطت على قضايا كانت تعتبر المحركات الجيوسياسية للعالم القادم (حرب أوكرانيا بشكل ملحوظ). والآن، يبدو أن القضية الفلسطينية هي التي تعيد ترتيب المعادلات والتعريفات التي بدت مستقرة منذ وقت طويل.

اضافة اعلان


كان من أهم التطورات تحويل القضية الفلسطينية التاريخية إلى "قضية قانونية" حقيقية بفضل الدعوى التي رفعتها جنوب إفريقيا الشجاعة ضد الكيان الصهيوني في "محكمة العدل الدولية". ولأول مرة في تاريخ النضال التحرري الفلسطيني ضد الاستعمار، أصدرت هيئة قانونية دولية مهمة سلسلة من الأحكام بشأن سلوك الكيان الصهيوني، في ما اعتبره الكثيرون هزيمة قانونية كبيرة للكيان وداعميه، وانتصارا لمناصري الحق الفلسطيني.


بطبيعة الحال، كان ثمة خيبة أمل في عدم إصدار المحكمة قرارا يأمر الكيان صراحة بوقف نشاطه العسكري في غزة على الفور، أو رفع الحصار عنها. لكن جزءا من القانونيين يرون وقف إطلاق النار متضمنا في أمر المحكمة إسرائيل بـ"اتخاذ جميع التدابير التي في وسعها لمنع ارتكاب جميع الأعمال في نطاق المادة الثانية من اتفاقية الإبادة الجماعية". 


في الحكم 15-2، أمرت المحكمة حكومة الكيان بمنع الأعمال التالية ضد "المجموعة" المحمية، التي هي فلسطينيو غزة بتعريف المحكمة:


"(أ) قتل أعضاء المجموعة؛ (ب) التسبب في ضرر بدني أو عقلي جسيم لأعضاء المجموعة؛ (ج) إخضاع المجموعة عمدا لظروف معيشية يُقصد بها إهلاكها المادي كليا أو جزئيا؛ (د) فرض تدابير تهدف إلى منع الولادات داخل المجموعة".


وبذلك، فإنه في حين أن عبارة "وقف إطلاق النار" لم ترد نصا في قرار المحكمة، فإن الحكم يظل واضحا بشأن قصد المحكمة، حيث أمرت الكيان بالتوقف –حرفيا- عن قتل الفلسطينيين في غزة "بأثر فوري".‏


كان حتى قبول قضية الإبادة الجماعية ضد الكيان شكلا محل شك، في ضوء الحماية الأميركية الحازمة للكيان في المؤسسات الدولية، ونفوذ أميركا المعتاد في هذه المؤسسات. وتوقع الكثيرون أن يمارس أصدقاء الكيان ضغوطا قوية على الدول التي ينتمي إليها قضاة المحكمة الدولية، لتضغط بدورها عليهم. لكن المحكمة أفلتت، بطريقة ما من هذا المأزق وكانت نسبة التصويت بين القضاة كاسحة لصالح بحث قضية الإبادة موضوعا، وإعلان أن دفوع جنوب إفريقيا صحيحة ومقنعة لتكون أساسا لبحث التهمة. وهذا في حد ذاته تطور مهم.


وحتى لو عطلت الولايات المتحدة آلية تنفيذ أحكام المحكمة في مجلس الأمن الدولي، فإن اتخاذ هذا الإجراء سيلحق المزيد من الضرر بسمعة الدولة التي تقدم نفسها كقائدة للنظام العالمي وحارسة للقانون الدولي. وسوف تضع نفسها مباشرة في نفس الصف مع متهم بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، أم كل الجرائم.

 

ويشير كثير من المعلقين إلى صعوبة رفع اليد بـ"الفيتو" على قرار يطالب بوقف إطلاق النار، بما يعنيه ذلك من السقوط الأخلاقي المعلن ذاتيا لصاحب الاعتراض.


في قرارها، أيدت المحكمة "حق الفلسطينيين في قطاع غزة في الحماية من أعمال الإبادة الجماعية والأعمال المحظورة ذات الصلة" بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية. ووجدت أن "الوضع الإنساني الكارثي في قطاع غزة عرضة لمزيد من التدهور قبل أن تصدر المحكمة حكمها النهائي".‏ وقال القرار، الذي قرأته رئيسة المحكمة، وممثلة الولايات المتحدة بالذات: "يجب على إسرائيل اتخاذ تدابير فورية وفعالة للتمكين من توفير الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية التي تشتد الحاجة إليها لمعالجة ظروف الحياة القاتمة التي يواجهها الفلسطينيون في قطاع غزة". ‏‏وأمرت الكيان بوقف التحريض على الإبادة الجماعية والمعاقبة عليه، والحفاظ على أي أدلة على انتهاكات اتفاقية الإبادة الجماعية ترتكبها قواته أو أفراده، وتقديم تقرير عن امتثاله لأوامر المحكمة في غضون شهر واحد.‏


حسب الكاتب جيريمي سكاهل، فإن "الحكم الصادر عن المحكمة مهم بالمعنى الرمزي: فقد وجد أن الفلسطينيين في غزة هم مجموعة محمية بموجب أحكام اتفاقية الإبادة الجماعية، وأن جنوب إفريقيا أثبتت أن هناك أساسا معقولا للتقاضي بشأن ما إذا كان الهجوم العسكري الإسرائيلي يشكل إبادة جماعية.‏ ‏لكنه يمثل أيضا انقلابا تقنيا لإسرائيل، التي جادلت مسبقا بأنها لا ترتكب أعمال إبادة جماعية.

 

والخلاصة هي أن المحكمة قضت بأن إسرائيل يجب أن تحاكم بتهمة الإبادة الجماعية في غزة، وأمرتها بالتوقف عن قتل الفلسطينيين هناك".


ينبغي أن يكون تحول الكيان الصهيوني من ضحية للإبادة الجماعية، التي بنى عليها روايته وعصم بها نفسه من الحساب، إلى مرتكب معترف به للإبادة، بداية لسلسلة من الإجراءات التي تنتهي إلى تفنيد هذه الرواية. وينبغي أن يستفيد الفلسطينيون من المبدأ، وإنما ليس الوسائل الوحشية، الكامن في وضع الضحية الحقيقية التي تقضي الأخلاقية والقانون نصرتها. كما أن الإدانة الرسمية التي أصبحت قريبة أكثر من أي وقت مضى للكيان بالإبادة الجماعية تشكل أساسا جديدة لقياس الأخلاقية في الاعتراف به والتعامل معه، واستعادة الأسس الإنسانية المدعومة بالقانون لتحديد الاصطفافات والوقوف في الجانب الصحيح من التاريخ.


إذا كان ثمة شك متبق في أهمية القرار التاريخي للمحكمة الدولية، تكفي ملاحظة ردود قادة الكيان الموتورة عليه، من نتنياهو إلى غالانت وبن غفير وسموتريتش وغيرهم. وقد بدا استشهادهم بـ"الهولوكوست" و"معاداة السامية" صراخا في صحراء، لم يعد يمتلك نفس التأثير المستجدي الذي اعتاد أن يجلبه. ففي النهاية، لا يحق لمجرم محتمل يحاكم أمام المحكمة أن يتذرع بأي شيء لتحويل الجريمة إلى حق، كما اعتاد أن يفعل. وقد أسقط القرار، مسنودا بالصور التلفزيونية والأدلة، آخر المساحيق عن بشاعة الوحش الذي يغرس مخالبه وأنيابه في لحم فلسطين، وعن نوع أخلاق مناصريه والمتعاملين معه.

 

للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنا