بين الدولة والمواطن

ما يجري في مجتمعنا من تسارع في الأحداث قد يتطلب الإلمام بالتحولات التي طرأت على عالمنا مؤخراً، ومن أهمها ما يتصل بالعقل وتفاعلاته.اضافة اعلان
لم يعد ما يتعرض له عقل الإنسان وبنيته الجيونفسية مقيداً، فقد أضحى العقل يتقاطع مع عوالم تمتد إلى ما بعد الحدود التقليدية التي يخمن البعض أنها – أي تلك العوالم – سمحت له بكسر قيوده كلها ليتقاطع مع الفضاء الرقمي (الألغوريذم )، الذي صار امتدادا للعقل، وبالتالي لعالم لامتناهٍ من المعلومات، ولأدبيات متنوعة من الأخلاقيات، وبسقف عالٍ لحريّة الاختيار والتعبير.
أما المساحات المحددة بجغرافية المكان والزمان، ابتداءً من الأسرة وانتهاءً بالدولة، والتي تشكلت عبر تاريخ طويل من خيالات الإنسان لـ "تنظيم" فضائه، فقد أصبحت متداخلة مع الفضاء الافتراضي، وهذه المساحات المتداخلة خلقت تحديات وفرصاً جديدة أيضا في إعادة تنظيم "عضوية" أفراد هذه المؤسسات، ساعية إلى إيجاد هندسات جديدة للمكان -ذهنياً أو مادياً- من الشراكات والتحالفات والتقاطعات. ولا ننسى تأثير الثقافات السائدة أو الصاعدة التي نتفاعل معها وبشكل يومي: ثقافة العشيرة، والثقافة الأبوية، وثقافة الدولة، وسوق العمل، وثقافة التحول المتسارع المنبثقة من الثورات الصناعية الراهنة.
من أهم التقاطعات التي تفرض نفسها بقوة على الساحة الحقوقية والأمنية الراهنة هو تقاطعات ما بين الأمن الإنساني وأمن الدولة، لغرض التوازن في حماية حريات المواطنين وحقوقهم من جهة، وللمحافظة على حاكمية الدولة والقانون ومكانتهما من جهة أخرى. إنّه تقاطع استراتيجي صعب وبحاجة الى منظومة رشيدة ليتم بيسر وأمان.
والسؤال المهم هنا هو كيف يتقاطع الأمن الإنساني مع أمن الدولة؟
يفترض التصور السليم أن تكون العلاقة ما بين الأمنيين علاقة سببية وتوافقية، بيد أنّ تعقيداتها في الوقت الراهن تنبع من الآتي:
أولاً، الفجوة في العلاقة بين الدولة و المواطن: لا شكّ في أنّ الدولة هي صاحبة الولاية فِي إدارة العلاقات وتنظيمها، وهي أيضا منتجة لمجموع أشكال علاقات القوى في المجتمع، في حين يستهلك المواطن هذه العلاقات، وقد يعيد إنتاجها داخل فضاءاته ليحدد شكل علاقته مع الآخرين . إنّ هرمية الأدوار والمواقع، التي تحكمها علاقات القوى بعيداً عن الشراكة والتشابك المؤثر والفعال، تخلق فجوة في الأدوار فيما بينهما، بل تؤدّي إلى علاقات متقاطعة مأزومة،
قد تجعل من المواطن في علاقته مع الدولة "أداةً" وليس غايةً، و"شيئاً" وليس جوهراً.
ثانياً، التناقض بين السياقين الأمنيّين: لقد تطور مفهوم الأمن الإنساني ضمن سياقات ومفاهيم وأدوات اجتماعيّة ثقافيّة، في حين تطور مفهوم أمن الدولة ضمن الاطار السياسيّ المبني في مجمله على أسس التسلح والعسكرة، والتقاطع بالمحصلة سيخلق تشابكاً صعباً ما بين الأنسنة والعسكرة، ولعلّ ذلك أحد أهم الإشكالات في العالم بأسره.
ثالثاً، أزمة الثقة والتوقعات بين كلا الطرفين – السلطة والمواطن، إذ باتت رهينة التوسع الأفقي والعمودي في آن واحد، وتمخض عن ذلك أزمة لغة، وأزمة خطاب، وأزمة حوار فيما بينهما.
من هنا وجب أخذ المحاذير الآتية بعين الاعتبار:
أولاً، حتى يصبح التقاطع آمناً، على الدولة أن تكون مدركة لحجم السيادة التي تملكها، والموقع الهرمي التي تتبوؤه، وذلك عندما يتقاطع أمنها مع أمن المواطنين، والمجتمع، والبيئة. لذا يجب أن تعيد الدولة فهم العلاقة على أساس الشراكة مع المواطن وتمكينه، لا تحييده وتحديد قدراته، فكلّ من الدولة والمواطن يصوغ الآخر، وتشكل علاقتهما هوية جمعية كلّ منهما.
ثانياً، على الدولة أن تدرك أنّ كل أشكال الخدمات التي تقدم للمواطن، من خدمات تعليمية وصحية واقتصادية وقانونية وعسكرية وأمنية وغيرها، تلعب دورا مهما في تشكيل سلوك المواطن، وعاداته، وأدواته في فض النزاعات وحل الأزمات، أو في تأجيجها ومفاقمتها. فسلوك المواطن هو مرآة لنهج الدولة وأسلوبها في التعامل.
ثالثاً، عندما يتعثر تقاطع الأمن الإنساني مع أمن الدولة، لا بدّ للحكومات الرشيدة من أن تحتكم إلى أدبيات سياستها الحقوقية والإنسانية، للخروج بتحالفات ذكية، وحوار مجد، وحكمة، في فض النزاعات والخلافات، بعيداً عن صراعات "البقاء للأقوى"، وذلك كي تنتج مشهدا آمناً قائماً على التفهم والتعاطف، يصير منارة للعبور إلى المرحلة القادمة.