حق الشباب في حياة كريمة أولاً

وجود وزارة الشباب مؤشر على اهتمام الدولة الأردنية بشريحة الشباب وعلى حرصها على دمج قضايا الشباب في صناعة أولويات الحكومات. لا يختلف على هذا اثنان. ولا نختلف أيضاً على انخراط العشرات من المؤتمرات في التمحيص والتحليل والتنظير عن احتياجات الشباب، خاصة في ضوء الهبّة الديموغرافية لفئة الشباب التي يشهدها الأردن الآن وفي السنوات القادمة. التحدي الذي نخبره اليوم وغداً هو نتاج هذه المؤتمرات ونتاج الوزارة عبر سنوات من العمل. النتاجات والمخرجات متواضعة وخجولة في أحسن حالاتها، لأسباب كثيرة منها الفجوة ما بين مخرجات الوزارة والجامعات ومتطلبات الشباب والتنمية في الأردن والمحيط. نعلم جيدا أن شبه القطيعة ما بين المؤسسات الأكاديمية والقطاعات الأخرى أثّرت بشكل واضح على ردم الفجوة الكبيرة ما بين الإنتاج العلمي من بحوث ودراسات في الجامعات وما بين قضايا المجتمع ومستجداته. ويدفع المجتمع ثمناً باهظاً لهذه القطيعة. وإذا لم يتحمل عقل الدولة وتتحمل ماكنتها مسؤولية إنتاج الدراسات والأبحاث النوعية، من استقراء وتحليل لكثير من التحديات الحالية وتقديم للحلول الذكية، فسيكون هناك فاقد كبير للفرص والنتاجات وهدر لها في تلك البحوث والدراسات. فبنقل البحوث من الرفوف إلى حيز التطبيق والتنفيذ سيتمكن الأردن من الانتقال إلى الإنتاجية. ولا بد أن تُنشأ في الجامعات وحدة تحويل النتاجات العلمية knowledge transfer unit إلى سياسات تنمية وخطط استباقية للحلول. في مجتمعاتنا نجد للسرد والخطاب والأحاديث والبوح وترديد المصطلحات والمفاهيم واستهلاكها - ومعظم الأحيان خارج نطاقها السليم- سحراً عند غالبية الناس. هذه المرحلة صعبة وصعبة جداً ابتداء من مشاكل التعطل عن العمل ومروراً بالفقر وانتهاء بالركود الاقتصادي في ظل الجائحة. وتحتاج هذه المرحلة إلى عمل بنيوي دقيق لا إلى مصطلحات ومفردات، وتحتاج إلى خطط تشغيل مدروسة بعناية لا إلى البوح والتنظير والجدل، كما تحتاج إلى متابعة وتقييم وليس فقط إلى مؤتمرات وتغطيات إعلامية. سأتناول هنا بعض التحديات الكبيرة التي تواجه شريحة الشباب وما تتطلبه المرحلة من إنماء قدراتهم ومهاراتهم وطاقاتهم لتحقيق ذواتهم للحصول على حقهم في حياة كريمة. في هذا المقال سأحاول التركيز على ثلاثة أمثلة من قضايا جوهرية توضّح بعض الأسباب البنيوية لقضايا الإقصاء والتهميش لشريحة الشباب التي نشهد في كثير من الفضاءات الرسمية وغير الرسمية. أولا: هناك صراع هويّاتي تعيشه شريحة الشباب. الهوية تتشكل بفعل عوامل عدة منها عوامل الأسرة والمدرسة والحي والجامعة؛ وتنحت القوانين والتشريعات سياسات الهوية وسوسيولوجياتها. فمثلا: قانون الأحوال الشخصية يبني معالم الهوية وحدودها، بشكل أو بآخر. وشكل التعليم وأدواته يشكل عادات الهوية، من سلوكيات التفكير والتأويل والتفسير والتبرير والانتماء والمقاومة، إلخ. وديناميكيات العلاقات في الأسرة والمدرسة والحي تشكل ديناميكيات تفاعل الهويات مع نفسها ومع الآخرين ومع العالم المعيش. أما اللغة، كما أتى في العديد من الدراسات، فهي البنية التحتية الأساسية التي تُشكل الهوية. اللغة الحاضنة ستشكل هويات منتمية ومنخرطة في الشأن العام وتتحمل مسؤولياتها الاجتماعية بشغف، واللغة التي تطبع الإقصاء والتهميش ستشكل هويات نازحة ومغتربة وتائهة ومقاوِمة لكل أشكال الانخراط المدني والانتماء. وطبيعة المحتوى للمواضيع التي يتعرض لها الفرد في المدرسة والجامعة والأسرة والإعلام ستحدد جوهر ومضامين هذه الهوية. أما فجوة الأداء performance gap التي أظهرتها بعض الدراسات فتؤشر على خلل في طبيعة بعض مخرجات الجامعات والمؤسسات الأكاديمية من مهارات وقدرات ومعارف، والتي لم تلبِ بشكل كاف احتياجات سوق العمل ومتطلبات المجتمع. مما سيولد تلقائيا هويات غاضبة بسبب استهتار بعض القطاعات التعليمية بتطوير الفرد وتنميته ليكون مواطناً فاعلاً ومنتجاً. والمتاجرة بمستقبل هؤلاء الشباب ومصائرهم من قبل بعض الجامعات الربحية، من أجل حفنة دنانير كما يقال، لا يتوافق بأي شكل مع منظومتنا القيمية الأردنية التي تضع الإنسان كرأسمال الدولة الأردنية. حقُ لهذا الشباب أن ينمو بمؤسساته التعليمية ليكون مستقلا وذكياً ومبدعاً ومنتجاً. وستكون هذه الهويات هويات غاضبة وقد تتحرك من مناطق الثأر والألم الحارق عندما تدرك كيف خذلتها بعض هذه المؤسسات التعليمية. ثانيا: صراع الشباب مع المكان والفضاءات العامة والمحيط الخارجي. هل صُمّمت المدن والمحافظات لتكون حاضنة للشباب وتنوع مواهبهم ومفعّلة انخراطهم في الثقافة والفنون والرياضة المختلفة والإبداع والريادة؟ هل يوجد مراكز للشباب تعنى بنمائهم ثقافياً وفنياً وفكرياً وإبداعياً؟ المدن والمحافظات تنمو وتتمدد بشكل عشوائي وبشكل تلقائي، "تأولِن" النزعة البدائية للنمط الاستهلاكي وتفرض محاكاةً وتماهياً مع أنماط ثقافة الاستهلاك القسري، كما ساعدت وسائل التواصل الاجتماعي على تفشي ظاهرة الاستهلاك المظهري أو "التفاخري». الصيدليات، ومحطات الوقود، ومقاهي الأراجيل والبقالات تأخذ الحيز الأكبر والأكثر تأثيراً من مساحات المدن والمحافظات. ويدلل ذلك بوضوح على أن أمراضنا في تزايد وعادات المشي والارتباط بتفاصيل الحي في تراجع والمواصلات العامة في تهالك وعادات الإدمان الجمعي من خلال الأراجيل والأطعمة والأشياء في تصاعد. وتلعب الفضاءات الخارجية دوراً مهما في تشكيل خيالاتنا ومِخيالنا وفي شكل وحدود انخراط الشباب مع المساحات الاجتماعية. هناك سياسات حالية تمنع دخول شريحة الشباب إلى المولات في عطلة نهاية الأسبوع وبعض المطاعم إذا لم يكن معهم مرافق من النساء أو الفتيات. ما هي الرسائل التي نرسلها لهذه الشريحة كمجتمع ومؤسسات؟ ثالثا: الصراع مع الزمان. الزمن الذي ينتج في المؤسسات التعليمية وفي المساحات الخارجية حتى في ظل تكنولوجيات التعلم الإلكتروني يتمترس في الماضي في بعض سياقاته، مثل إدارة العملية التعليمية/التعلمية وإدارة الغرف الصفية وآلية بناء المهارات والمعارف وإدارة الفضاءات الخارجية وتصميمها. نحتاج إلى مرونة وإرادة وجاهزية لنواكب المستجدات الفاعلة والإيجابية ولنتجرأ على أن نخطو بثقة إلى المستقبل لنخاطر ونجرب ونخطئ ونصيب ونتعلم ونتطور. يحتاج هؤلاء الشباب إلى قفزة من الحاضر إلى المستقبل، وإلى تعليم يكفل نموهم بشكل متكامل ليجرؤا أن يطمحوا وأن يحلموا بمستقبل زاهر ويحققوا أمنياتهم وذواتهم. يحتاجون إلى فضاءات جامعة تحتضنهم وتحتضن تنوعهم. بهذا وليس بغيره نحمي حق الشباب بأن ينشأوا في بيئة من الرعاية والنماء والرأفة والمودة. نحن كلّنا، حكومة ومؤسسات وقطاعات وشعباً، نتحمل مسؤولية تعثر الشباب وتعطله وتوهانه عن الطريق السديد. الرعاية وجودة التنشئة تأتي قبل المساءلة والعقاب.اضافة اعلان