طقس ملائم للعزاء

ابراهيم جابر ابراهيم إلى أين يفرّ العربي من الموت؟ الموت الذي يأتيه من كل الجهات، براً وبحراً وجواً. الموت المحمول على ظهور الدبّابات، أو المساعدات و “النوايا الحسنة”! في سورية، أو في العراق، وكذا في ليبيا، أو اليمن، لا تستطيع أن تجري “تعدادا للسكان” لأنهم يتناقصون كل خمس دقائق! لا تصل حافلة بكامل ركابها الى موقفها الأخير، ولا تهيئ عائلة طعاما للعشاء، فهي لا تعلم من سيعيش من أفرادها حتى المساء! لا يمكن لمعلم أن يكلف طلابه بواجب منزلي، ولا لعاشقة أن تعطي موعدا بعد ساعتين، ولا لنخلة أن تثق بمواسم البلح! الموت واقف على الأرصفة كأعمدة الهاتف، فضولي كالسياح، نهم ونشط وله حشد من المعاونين والمساعدين والمتعهدين. الذين يحضرون جنازة يحدقون في بعضهم بعضا بارتياب: أحدهم في الجنازة المقبلة سيكون القاتل وأحدهم سيكون القتيل! لا يعد طفل أمه بأنه سيصبح حين يكبر ذا شأن عظيم: هو لا يثق بأن أحدا سيبقى؛ هو أو أمه أو أي شأن عظيم. يذهب التلاميذ إلى مدارسهم ومباشرة تصير الأمهات ثكالى إلى حين انتهاء الدوام! الموت أكثر توافرا من الناس، فيموت المواطن مرتين أو ثلاثا؛ يموت نيابة عن أخيه المسافر، أو والده السجين، أو أمه التي نامت مبكرة في تلك الليلة ولم تحضر الانفجار! يموت البعض من باب اختصار الوقت، أو لأن الطقس ملائم في ذلك النهار للعزاءات، أو لأنه لا بد آخر الأمر أن يموت! الموت الشعبي الناجم عن شيخوخة أو ذبحة صدرية لم يعد رائجا، ومتعاطو هذا النوع صاروا قلة، ولا يحظون عموما بأي التفاتة أو اهتمام! وكذلك الموت المبرر بانتهاء الأجل لم يعد متداولا، فمعدل الأعمار صار يقاس بـ24 أو 72 ساعة على الأكثر. لم يعد هناك صراع ثقافي أو فجوة تقنية بين الأجيال؛ فالأجيال لا تعمر أكثر من شهر، وأبناء العشرينات صاروا كهولا، والحياة إجمالا صارت زيارة عابرة يقوم بها الناس في طريقهم إلى المقبرة. يخرج العامل صباحا للبحث عن عمل لذلك النهار، لنهار واحد فقط، ويتحايل على كل أسباب الموت، مقابل أن يعود برغيفين وبعض التمر… لكن الموت كامن في النهار، في الرغيف، في التمر، بل ربما كان مختبئا في ملابس العامل منذ الليلة الماضية! الموت بلا قلب، بلا رحمة، وفراش الأب سرعان ما يصير تذكارا! الحياة لم تعد بدورها، مَغنماً، والعزاء الوحيد في هكذا حالة أن الذين يموتون يذهبون عميقا في حضن التراب، التراب الذي لطالما غنّوا له “بالروح بالدم نفديك يا بلادي”. وهذه هي الحكمة من البلاد. تبتلعنا بلادنا ربما لأنها لم تعد قادرة على حمايتنا، ولم تعد الأغاني تنفعنا أو تنفعها بشيء. المقال السابق للكاتب  للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنااضافة اعلان