"فاغنر" والعنزة التي تطير

لدى تأكد الأنباء في الأيام الفائتة، أن المليشيات الخاصة، العاملة ضمن الجيش الروسي، المسماة «فاغنر»، خصوصا في الحرب الأوكرانية، تعلن التمرد، أصبح ممكنا إمساك ورقة وقلم، وكتابة مجموعة ردود الفعل المتوقعة، من «الزملاء والأخوة» الذين يؤيدون الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بشكل فيه الكثير من العاطفة. فرد الفعل لدى شريحة واسعة، وليس الجميع، حالة دراسية مهمة، لأي أستاذ أو مدرب أحب تدريب طلابه على مفهوم «التنافر المعرفي». اضافة اعلان
من ضمن أسباب تأييد قطاعات واسعة من الناس للقيادة الروسية، قناعتهم أنّ روسيا تتحدى الاستعمار الأميركي وأنّ العالم بفضلها يصبح متعدد الأقطاب. ربما يكون هذا الطموح أو الأمل مبرر، ونبيل، من حيث المبدأ، ولكنه رغائبي (خيالي) من حيث أن روسيا لديها مثل هذا المشروع، أو قادرة عليه. 
قد يكون لدى بوتين طموح أن يصبح قطبا عالميا لكن هذا يأتي في إطار قومي روسي وشخصي، وليس مشروع لعالم أفضل، وتحالفاته واضحة متناقضة فعلاقاته مع مع دول العالم قائمة بناء على حسابات الدول وليس المشاريع الحضارية، وأحيانا على أساس القومية الروسية، أو حتى الكنيسة الأرثوذكسية.  
وجود قوة المرتزقة في العصر الحديث، التي تسمى أيضا المتعاقدين (contractors)، أو outsourcing، ليست اختراع روسي، فقد برزت مثلا بشكل كبير في الاحتلال الأميركي للعراق، بين عامي 2003 و 2006، ويعتبر كتاب (وفلم) عقيدة الصدمة، للباحثة نعومي كلاين، أحد المصادر التي وثقت بالأرقام أن غالبية القوات الأميركية في العراق، (خصوصا سنوات بعد الحرب)، هي من شركات مثل بلاك ووتر وغيرها، وناقشت كلاين الأمر في إطار هجومها على السياسات اللبرالية الجديدة التي سادت العالم في التسعينيات وحتى العام 2008 تقريباً. 
كان اعتماد بوتين على أعمال قوات «قطاع خاص» أو «مرتزقة» متمثلة بشركة فاغنر، التي يملكها صديقه يفغيني برويغوجين، الذي يشكّل نموذجاً لرجال أعمال أثروا في عصر ما بعد الاشتراكية في روسيا، عبر أعمال تمتد من مطاعم صغيرة، وتجارة مبتدئة، تنتقل لتجارة العقارات والسلاح، وأخيراً تأسيس جيوش قطاع خاص»، مثالاً على نمط الاقتصاد الذي يقبله بوتين. الواقع أنّ هذه الجيوش الخاصة، أعلى من توقعات الليبراليين الجدد الذين أرادوا خصخصة كل شيء، مثل ميلتون فريدمان، وديفيد هايك. 
يمكن رؤية هذه المليشيات في روسيا مؤشراً على طبيعة النظام هناك، بدءا من أنّه لا يوجد لديه نموذج اقتصادي جديد، فعلاوة على أن الاقتصاد الروسي ريعي يعتمد على الثروات الطبيعية وخصوصاً البترول والغاز دون مجاراة دول صناعية مثل الصين أو غيرها، فإنّ هذا الاقتصاد مفتوح للخصخصة المختلطة بالمصالح السياسية. وكان يجب رؤية فاغنر في سياق الفشل والتخبط في توفير قيادة عسكرية مستقرة للقوات الروسية، وأنّها جزء من خطة بوتين تقسيم النفوذ بين الجنرالات والسياسيين ورجال الأعمال ليخلق توازنات وتناقضات يستعملها. 
في خمسينيات القرن الماضي طور ليون فستنغر نظريته «التنافر المعرفي»، وأهم معالمها أنّه إذا حدث شيء أو اتضحت حقيقة تتنافى مع الموقف العقائدي أو العقلي للشخص فإنّه يميل لرفضه أو تفسيره عبر طرق، يمكن تلخيصها بمقولة عربية شائعة «عنزة ولو طارت»، أي الإصرار على رؤية الشيء كما نريد. من أعراض هذه الحالة إنكار المصدر (مثلا إذا حدثت نكسة عسكرية لجيش يؤيده يتم الهجوم على القناة التلفزيونية التي تنقل الخبر، وعلى المحلل العسكري الذي تستضيفه القناة وعلى صاحب التحليل المختلف)، أو تقليل شأن الخبر (مثل القول إن التراجع العسكري محدود ولا يؤثر في المشهد العام)، أو تقديم تفسير مفترض دون أساس، (مثل أن بوتين لا يريد حسم المعركة الآن، ولو أراد لحسمها، أو أنّ ما يحدث مؤامرة تم القضاء عليها)، يضاف لهذا ما يسمى «الازدواجية القيمية» فما هو ليبرالي جديد استعماري في سياق يصبح ثورياً في سياق آخر (لو أنّ واشنطن تستخدم «فاغنر» لقيل أن هذه لبرالية جديدة، ودلالة ضعف الجيش الأميركي، ولكن عندما يفعل بوتين هذا يتم الصمت عنه أو الترحيب به). بطبيعة الحال نظرية التنافر المعرفي تتحدث عن أنماط إيجابية، من مراجعة الذات، وإعادة تشكيل القناعات منطقيا وفقا للمعلومات الجديدة.