"كورونا" والسفر: حتى ابتسامات الشوق مخفية!

فريهان سطعان الحسن يأخذك السفر إلى عوالم لم تعد تشبه تفاصيلك. منذ لحظة دخولك أرض المطار تكتشف أن ثمة أمورا جديدة تختبرها للمرة الأولى. حقيبتك الصغيرة التي تلازمك كظلك، ممتلئة بالفحوصات والكمامات والقفازات. المعقمات بجميع أنواعها تحجز مكانها في الحقيبة، فأنت تحتاج إلى قناعة بأنك تمتلك “أسلحة” كافية قادرة على هزيمة فيروس كورونا! إلى جانب ذلك، فأنت تحفظ جميع إجراءات ونصائح السلامة، فمع كل خطوة تخطوها تحاول أن لا تستخدم يديك. لكن ذلك شبه مستحيل في مكان يتطلب منك أن تلمس ما حولك وإن كان بحذر، على أمل أن تنتهي من إجراءات المطار بأمان وتصل سالما. فجأة، وأنت تبحث عن جواز سفرك لتعطيه للرجل المعني بالمطار، تضطر لأن تزيل كل المعقمات التي تطفو على السطح وأن تفتش بينها عن حاجتك. تلك المعقمات أصبحت أولوياتنا قبل أي شيء آخر!! وأنت تنتظر لحظة الإقلاع، تطلب فنجان قهوتك اعتدت أن ترتشفه بحب في السابق، لكنك هذه المرة تخاف أن يكون ملوثا، فيضيع استمتاعك به وأنت مشغول بتعقيم حوافه. حين تبدأ بارتشافه، تكتشف أن طعمه الذي أحببته يوما، تغير للأبد! تداهمني الذكريات، فيمر في بالي حين كنت طفلة أنتظر بشغف لحظة النظر من نافذة الطائرة وهي ترتفع للسماء لأراقب كيف تبدأ الأشياء بالابتعاد وتصبح أصغر فأصغر. كان يمكن لهذا أن يشعرني بقليل من السيطرة على حواسي، وأنني أستمتع بطقس قديم من الماضي. لكنني هذه المرة لم أرصد المشهد، بل انشغلت بتنظيف المقعد وتعقيم كل ما حولي، ورش كل زاوية صغيرة وكبيرة لكي أشعر ببعض الأمان الذي أفقدني إياه كورونا، لذلك فقد ارتفعت الطائرة، وحلقت بعيدا قبل أن أكتشف الأمر. حتى لحظة وصولك إلى الوجهة التي ترحل إليها، يكون التفكير فقط بمسافة البعد التي أصبحت الأمان لك. هكذا نقرأ بالدراسات العالمية، فكلما كنت بعيدا عن الآخر ضمنت حماية نفسك من تهديد يسببه لك، فتتحاشاه ما استطعت. تصل الطائرة، وتتهرب حتى من مضيفات يرحبن بك بابتسامة مخفية من خلف الكمامات، لكنك تستطيع أن ترى بعضا منها في عيون متعبة. ألملم ما تبقى لي من أغراض شخصية على متن الطائرة، وفي لحظة وصول مطار الوجهة التي أذهب اليها، أبحث عن فرصة الانعزال مع نفسي وكأنني لا أرى أحدا. لا أريد شيئا سوى معقماتي ووسائل حمايتي من الآخر. يا الله.. إلى أي حد وصلنا!! تدلني إحداهن إلى مكان إجراء فحص كورونا، فأذهب والأفكار تداهمني. ترهق عقلي، ويكون السؤال الحاضر: ماذا لو؟ ماذا لو؟! ومع ذلك أحاول أن أفكر بأشياء إيجابية وجميلة مقبلة علها تزيح عني غمامة الخوف والترقب. تأتي اللحظة الأصعب حينما أخرج من باب المطار، لأرى في استقبالي صديقات “الغربة” اللواتي جمعتني بهن أجمل لحظات العمر وأصدق الضحكات وأنقاها. نقف للحظة ننظر لبعضنا بعضا من مسافة، والكمامة تخفي ملامحنا، لكنها لا تخفي الاشتياق في العيون. في هذه اللحظة أرفع يدي من بعيد، بإشارة مفادها لا للمصافحة والعناق. أحاول حينها أن أسيطر على مشاعر مؤلمة ونحن “نحرم” من لحظات العناق بعد وقت طويل لم نلتق به. تجربة السفر في زمن كورونا لا تشبه غيرها، وإن كنا في أمس الحاجة لها رغبة بالتغيير واختبار أجواء تخرجنا من ضغوطات نعيشها؛ لكنها تعود لتفتح المواجع علينا، وتذكرنا بأجمل التفاصيل التي لم نكن يوما نلتفت إليها أو نعيرها أي اهتمام. ماذا فعل بنا كورونا؟ هل أوصلنا لأن نشعر بأن التهديد الوجودي شعور كاف لتغيير أولوياتنا؟! أم علمنا أن أشياء كثيرة كانت بمثابة روح الحياة، ونعمة كبيرة لكننا لم نقدر وجودها إلا حينما افتقدناها! توقف أيها الفيروس اللعين عن سرقة أجمل تفاصيلنا وأصدق مشاعرنا، فما يزال لدينا بعض الأمل لنحارب به، وبانتظار أيام مليئة بالبهجة المستعادة!

المقال السابق للكاتبة

للمزيد من مقالات الكاتبة انقر هنا 

اضافة اعلان