كي لا نتوه مع التائهين

أذكر جيدا عندما كنا أطفالا كانت المعلمة والأهل ينصحوننا باستمرار بألا نكرر ما نسمعه من كلمات شائنة حتى لا تدخل في صندوق مفرداتنا وحيز تفكيرنا، وبهذا تنتهي هذه المفردات حيثما بدأت. هذا الذي عُرف من عند الأسلاف أرى فيه الكثير من الحكمة والذكاء في التعامل مع بعض المصطلحات الراهنة التي تقذف علينا من سياقات الاستقواء السياسي والاقتصادي من بعض الدول، كالمصطلح الجديد الذي طلعت به علينا الإدارة الأميركية الحالية، والتي تمكنت بسوء نية من إعادة إنتاج حالة استعمارية إمبريالية في زمن يتغنى فيه الخطاب الكوني باستقلالية الدول وحقها في العيش الكريم. تتماهى هذه الإدارة مع أساطير زائفة حينا، ومصنوعة بعلاقات براغماتية وتحالفات داروينية حينا آخر، فعلى سبيل المثال خلقت “صفقة القرن” مشؤومة الذكر مئات المقالات والبوستات التي بدورها أوجدت مساحات جديدة ومتعددة لنشر هذا المصطلح الجديد ومحاولة تجذيره في عقولنا ومساحاتنا اللغوية وأرشيف الذاكرة السياسية، ليصبح مصطلحا حيا يستحضر دلالة وفهما مباشرين، ويتموضع في قلب الخطاب السياسي الراهن، فيزعزع استقرار معانٍ تدين الاستعمار والاستقواء السياسي والاقتصادي. فبدلا من أن نتحدث عن انتهاكات راهنة، وعن التحايل اللاأخلاقي، وعن البلطجة السياسية في شرعنة الاحتلال الاسرائيلي وجرائم الكيان الصهيوني في الإبادة العرقية وتشريد السكان الأصليين، صرنا نتحدث عن مدى شرعية (ص.ق)، ونهيم معها في متاهات مصطلحاتها وسردها وفوضى طرحها. ماذا لو تجاهل العالم هذه الـ(ص) ولم تعرها الماكينة الإعلامية انتباها!؟ ماذا لو ركز العالم، والذي هو بالمجمل مناهض لكل أشكال الاستعمار، على تجريم الاستعمار في الأراضي الفلسطينية وفي كل أراضي العالم بالمساءلة القانونية !؟ ماذا لو عمت النزاهة في العالم كله لرصد المسببات البنيوية للانتهاكات والاختراقات التي تشكل قطيعة مع الخطاب الحقوقي، وتناقضا جوهريا لمنظومة القيم الكونية !؟ ثم ماذا لو جعل العالم من أولوياته مواجهة فكر الاستعمار بكل أشكاله، الضمنية والظاهرة، قولا وفعلا ، وبالحجة العلمية والحكمة الانسانية والمنطق الأخلاقي والمساءلة القانونية أو لو بادر بنشر صفقاته الإنسانية الجامعة، والتراث الأخلاقي والثقافي المشترك بأدبياته ومفرداته ومصطلحاته التي تدين وتحاكم كل أشكال الاستقواء والإقصاء والتنمر!؟ إنها سيناريوهات مختلفة بمخرجات متباينة بتباين الخير والشر، وأنوه هنا إلى ثلاثة أمور: أولا: المشهد الحالي السياسي والاقتصادي في العالم، كما يصفه بعض الخبراء، إنه مشهد يمر بنكسة سياسية حادة، مشهد متعثر ويفتقد مقومات التحول الرشيد في ضوء التحولات الكونية الهائلة، ذلك أن حالة الفوضى السياسية والاستنزاف للعقد الذي يجمع الشعوب بحكوماتها يستدعي مسارا انتقاليا يتسم بالديناميكية والمعرفة، ويُحدث اشتباكا كونيا جامعا وقادرا على نحت مقاربات للقيم وللأخلاقيات ولأدبيات العيش المشترك، التي تكفل علاقات بين الأمم تقوم على قواسم مشتركة وعابرة لكل أشكال التنافر أو التناحر أو التباعد. فالصراعات الحالية، والوضع الأمني الإنساني والبيئي المتراجع، والهجرات السكانية القسرية، كلها مؤشرات على ضرورة حدوث تحولات جوهرية وبنيوية في النهج السياسي والاقتصادي الحالي، على أن يتم ذلك في ضوء نهضة الشعوب ومقاومتها لكل أشكال الاستقواء والإقصاء، لأنها باتت ترى نفسها شريكا استراتيجيا مع حكوماتها في تحديد مصيرها. هناك حاجة ماسة ليعيد العالم نظرته إلى صيرورته وهويته وأدواته ومنهجياته وعلاقاته لينسجم مع القيم الانسانية الجامعة والتشاركية في التكافل والوئام. ثانيا: أصبح العالم اليوم أكثر ذكاء وابتكارا بسبب ذكائه الاصطناعي وذكائه الجمعي، وتسارع مستجداته المعرفية والتكنولوجية وبذلك فقد أصبح في حاجة ملحة لمنظومة أخلاقية تحمي ذكاءه وابتكاراته التكنولوجية، ونهجه العلمي من مصير يؤدي الى العدمية أو إلى العبث بالإنسانية وقيمها. ثالثا: لم يعد للحكومات بنزعتها الانعزالية السابقة أو الحالية القدرة على قيادة المشهد السياسي، وإدارة الملف العالمي بدون شراكات وطيدة مع قطاعات متنوعة من خارج هذه الحكومات أو الماكينة السياسية التابعة لها، لتحقيق القيادة المنشودة والإدارة الذكية. إن قيادة المشهد العالمي بحاجة الى شراكات لها عمق استراتيجي مع من يمتلك الرأسمال الفكري والمعرفي والروحاني والفلسفي، وأدبيات الأخلاق، ليقود بنزاهة ورشد، ومع من يمتلك قلب القديس، نعم القديس، لينشر ثقافة عالمية للتعاون والعدالة المطلقة والقيم الفضلى. وأخيرا، دعونا لا نتوه مع التائهين في مصطلحات الغابرين ونسمي الأشياء بأسمائها: كل احتلال هو اختلال، وكل اختلال واحتلال الى زوال.اضافة اعلان