"مندوب مبيعات"

إبراهيم جابر إبراهيم يلزم الكثير الكثير من الصبر وطول البال لأي رجل أو امرأة حتى يكون مندوب مبيعات متجولا! تجدهم أحيانا في أماكن لا تتوقع وجودهم فيها؛ في مقبرة أو مقهى أو يندسون بين الحضور في عرس. وكثيرا ما تصادفهم في المناطق الصناعية، وبين الكراجات، بل إن أحدهم فاجأني هذا الأسبوع في معمل طوب! المثير للشفـقة، تجاه هؤلاء الناس، أنهم مضطرون كل صباح أن يرتدوا البدلة القديمة التي كلح لونها، وقناع الصبر، والابتسامة البلاستيكية الباردة! وهي أدوات الشغل التي لا يستقيم العمل من دونها. ففي مناطق ورش الميكانيك والحدادة والنجارة؛ حيث الغبار وروائح الدهان، تجد أحدهم في ساعات القيظ عارضا بضاعته، والعرق يتصبب على ياقة قميصه، وحذاؤه يغوص في التراب. وفي مخلفات المناطق الصناعية، حيث يبدو مشهد ربطة العنق هناك كاريكاتيريا ومثيرا للتندّر، وهو ما يفعله غالبا أبناء الورش الذين يجدون مادة للتسلية، في الرجل، وفي بضاعته التي يقضون ساعات في تجريبها، والعبث بها، ثم يعتذرون بحجة أنها لا تلزمهم! وهو مضطر في هذه الأثناء، وقبلها، وبعدها، للابتسام والمجاملة، وإعادة سرد الشرح الطويل الذي حفظه عن ظهر قلب، عن مواصفات البضاعة ومميزاتها وطرق استخدامها! وهو مضطر أيضا لأن ينتظر عاملا طلب منه أن ينتظر لحين تركيب الموتور، أو أن يقف جائعا يسترق النظر لإفطار تجار طلبوا منه أن ينتظر حتى ينتهوا من إفطارهم! وتتأمل أحيانا في بضاعته الرخيصة، فهي إما أمشاط شعر أو نظارات شمسية تضر العينين أو حزامات رجالية أو مفكّات أو نكاشات أذنين أو بطاقات هاتف أو ربما يروج لمطعم وجبات سريعة، أو تخفيضات في الأسعار لفندق ومنتجع سياحي! وتتساءل: لو باع في النهار عشرين مشطا أو حزاما، بقيمة بيع إجمالية تتراوح بين أربعة دنانير وعشرين دينارا، فهل سيتجاوز صافي ربحه في النهار ثمن فنجان قهوة مع كوب مياه معدنية في مقهى 3 نجوم؟! ربما بدأت الحديث عن مندوبي المبيعات، ثم اختلط الأمر مع البائعين الجوّالين، لأنه لا فرق كبيرا بينهما، سوى أن الأول ملزم بارتداء البدلة التي تضاعف من ملله وضجره وشعوره بالقهر، لكن كليهما ملزم بالابتسام والمجاملة ومجاراة الزبون مهما كان ثقيل الظل، ومهما شعر البائع أنه غير جادّ! وإذا كان البائع الجوّال يملك هامشا شخصيا أحيانا للحدّة والحرد، فإن المندوب الذي يمثل شركة أو مصنعا لا يملك سوى الصبر والهدوء وإعادة الابتسامة ذاتها عشرات المرّات.. لأنه يعاقب بالإساءة لاسم شركته إن فقد صبره! فهذا الرجل، في المحصلة، لا يؤجر للشركة وقته وجهده وإمكانياته في الإقناع، فقط، بل يرهن أعصابه وانفعالاته ومشاعره، طوال النهار، لدى "ماركة مسجلة"، قد لا تعود عليه آخر يومه بثمن علبة سجائره أو إفطار خفيف للعائلة! والمفارقة، أن هذا الرجل أو الفتاة، الذي يجامل الناس ويبتسم ابتسامته المؤجرة لصالح الشركة، الصابر على بؤسه وعلى غبار الكراجات وأسواق الخضار، لا يجد ولو ابتسامة صغيرة من الجالسين خلف مكاتبهم، أو في محلاتهم، بل هم ينهرونه أحيانا عن عتبة الباب كأنه قط أو شحاذ. مع أن الأزمة المالية العالمية، والتبعات الاقتصادية لفترة "كورونا" والانهيارات التي أصابت الكثير من التجار وكبار أصحاب الأموال أثبتت أن لا أحد أبدا يستطيع أن يثق بماله، أو أن يمسك قدره بأصابعه.. وأي واحد منا قد ينتهي بائعا للأمشاط أو لفوط الأطفال أو "علكة سهام"! المقال السابق للكاتب:  هل اختفى “المواطن العادي”؟اضافة اعلان