محمد عمارة.. عملاق الفكر الإسلامي الذي رحل

د. محمد المجالي

الحياة مبادئ ومواقف، مبادئ نعيش من أجلها، سامية راقية، مصدرها الله تعالى خالق الإنسان ومكوّن الأكوان، ومنزِّل الشرائع ومرسل الرسل؛ ومواقف تعكس تفاعل الإنسان مع مبادئه، وتبيّن مدى إخلاصه لها، وثباته عليها، فلا تغريه مصلحة، ولا تخيفه قوة، ولا تلهيه شهوة، ولا تنطلي عليه شبهة، واثق بمبدئه، معتز بربه، مستبصر بطريقه، مواقف يُعرف بها الرجال، يُمتَحنون بها، فلا يثبت إلا القليل، أولئك الذي يبقي الله أثرهم، ويخلد ذكرهم، لم يسعوا لذلك، بل كافأهم الله تعالى على إخلاصهم وصدقهم، وزرع حبهم في الناس، ولعلها من عاجل بشرى المؤمن.اضافة اعلان
ودّعت الأمة الإسلامية قبل أيام أحد أهم أعلام الفكر الإسلامي فيها، الأستاذ الدكتور محمد عمارة، نموذج العالِم الإسلامي الموسوعة، الذي لم يداهن ولم يهادن على حساب دينه، أراد نفسه حرا حتى من الوظيفة، فللحرية طعمها الخاص الذي يحث الفكر على الانطلاق، لا تقيده حظوظ نفس ولا توجيهات شخص ولا رغبة حاكم، إنما هي ضوابط هذا الدين وسياجه المتين، وما سوى ذلك فكر منفتح، وعزيمة وثّابة، وهمة متّقدة، ورؤية شاملة، ويقين بالله لا تحده حدود، ولا تقف دونه قيود.
يقول فقيدنا عن نفسه: " آثرت التفرغ للبحث والكتابة، وتركت الوظيفة الحكومية، وزهدت في التطلع للمناصب منذ تخرجت في كلية دار العلوم، وفضلت أن أظل حرًا مشتغلًا بالعلم، وأن أكون كالجالس على "الحصيرة"؛ لأن الجالس على الحصيرة لا يصيبه الأذى إذا ما وقع من عليها"، وكأنه يشير إلى المعنى إياه، الثبات على الحق، فالمتعثرون الواقعون كثر، والثابتون قلة.
تميز رحمه الله بغزارة علمه، وقوة حجته، ونفاذ بصيرته، فزادت مؤلفاته عن الثلاثمائة مؤلف، في مجالات شتى في الحقل الإسلامي والإنساني، في بناء العقيدة، وتوضيح مصادر الإسلام، وتفصيل شريعة الله، ورد الشبهات، ومواجهة الخصوم، وتأكيد الهوية، وبث الأمل، وترسيخ القيم، في كتب ومقالات وأبحاث ومناظرات وندوات، فكان الجبل الراسخ، والنبع الصافي، والحجة المقنعة، والشخصية الموسوعية.
كثرت في زماننا الفتن، وقل الثابتون على مبادئهم، وكم سمعنا عن علماء سقطوا، غيروا وبدلوا، بل وقف بعضهم مع الظلم وأيّدوا الباطل، فسقطوا من أعين الناس، لأنهم هانوا على أنفسهم وعلى أعدائهم أنفسهم، فلا شك سقطوا سقوطا مدويا، وربما لم يسقط بعضهم، ولكنهم اختفوا وآثروا الصمت، وقد يُعذَر بعضهم، والله أعلم بما في بواطن النفوس، ولكن صاحبنا رحمه الله لم تأخذه في الله لومة لائم، دافع عن دينه، وجهر بالحق، ولم ترهبه قوة سلطان، ولم تغره زخارف الدنيا.
تميز بحرصه أن يكون حرا، لأنه يعلم أن للحرية شأنا عظيما في تشكيل الشخصية وصياغة الفكرة، والعالِم على وجه التحديد ينبغي أن يكون حرا، والعلماء ورثة الأنبياء، ومبلّغون عن رب العالمين، وهم في أعلى درجات الامتحان والمسؤولية إذ عدّهم الله تعالى في كتابه من أولي الأمر، فزلّة عالِم يضل بها ويزِل عالَم، ومن لم يملك هذه الحرية والجرأة في قول الحق فعلى الأقل يصمت، ولا ينحاز إلى باطل، ولا يكثّر سواد المثبطين المعوّقين، خاصة في زماننا حيث تداعت علينا الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها، لا من قلة، فنحن كثير عددنا، ولكنها الغثائية حيث البركة منزوعة.
وتميز –رحمه الله- بغيرته على هذا الدين وهذه الأمة، وقليل من العلماء فضلا عن بقية الناس من يعيشوا لأمتهم ودينهم، لا تعرف الأنانية ولا القومية ولا المصالح الآنية طريقا إلى قلوبهم ولا عقولهم، رؤية بعيدة تحف بالعالم كله، وصدر متسع لهموم الأمة والإنسانية، فكان صاحبنا أحد هؤلاء، شهد له القاصي والداني، ويكفيه ما ختم الله به حياته، عزة وكرامة وثباتا ويقينا به سبحانه.
تميز أيضا بموسوعيته، وربما هي من مشكلات بعض المتخصصين، أنه يحصر نفسه في علم ويجهل علوما كثيرة، من هنا كانت جودة كتبه، وواقعية طرحه، وشمولية منهجه، وعمق تأصيله، وقوة حجته، فلا بد لطلبة العلم مع التخصص من أن يتمرسوا في العلوم الأخرى، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
وتميز بحرقته على هذه الأمة، وكم تمنى ارتقاءها واستعادة مجدها وعزتها، بذل وسعه فيها، وعايش قهر الرجال، وتزوير الحقائق، وصعود الأقزام، وتمزيق المبادئ، ولكنه ثبت وبقي أسدا ضروسا منافحا عن الدين، باثا الأمل في النفوس، فعبثا يحاول هؤلاء أن يطفئوا نور الله: "يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون. هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون"، فما هي إلا الأيام يداولها الله سبحانه، ومدار النصر أو الهزيمة إنما هو مرتبط بنصرتنا لدين الله وإخلاصنا له، ليس إلا.
هي دنيا لن نعيشها إلا مرة واحدة، ونحن مستخلفون فيها مدة من الزمن لا يعلمها إلا الله، وهي قنطرة إلى آخرة خالدة، والكيّس من أبصر حقائق الأشياء، وأعدّ لآخرته، وأبصر نفسه، وتدارك تقصيره، وأصلح حاله. هنيئا لمن عاش لله وفي الله ومع الله، فلن يضيعه الله، فهم أولياؤه وأصفياؤه، فاللهم اجعلنا منهم يا حي يا قيوم.