"يتقارب الزمان"

د. محمد المجالي

لا أظن أحدا يناقش في مسألة سرعة مرور الزمن، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إليها، وبين أنها من علامات يوم القيامة، وذلك حين قال: "لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ الْعِلْمُ، وَتَكْثُرَ الزَّلازِلُ، وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، وَتَظْهَرَ الْفِتَنُ، وَيَكْثُرَ الْهَرْجُ وَهُوَ الْقَتْلُ الْقَتْلُ، وحَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمْ الْمَالُ فَيَفِيضَ"، ولعل نظرة سريعة على هذه الأمور التي ذكرها صلى الله عليه وسلم، وهو الذي لا ينطق عن الهوى، نرى أنها جميعا قد وقعت، وتقع، ومعلوم أن علامات القيامة صغرى وكبرى، ومن الصغرى ما وقع كمبعث النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها ما وقع ويقع، ومنها ما لم يقع بعد، وهو قليل.

اضافة اعلان

وأقف عند قوله عليه الصلاة والسلام: "يتقارب الزمان"، وللعلماء في تفسيره أكثر من قول، أهمها نزع البركة من الوقت، ويمكن أن يكون المقصود سرعة الاتصالات، ولكن الذي عليه كثير من العلماء (ولا ينفي الأقوال الأخرى) هو نزع البركة، حيث ورد حديث آخر يبين أن السنة تصبح كالشهر، والشهر كالأسبوع، وهكذا..

نحن نحس بهذا، ولا أدل على ذلك من أننا بالأمس استقبلنا رمضان، بل ما زال بعض الناس يهنئون به، وها قد مضى ولم يبق منه إلا القليل، وكذلك إحساسنا بالأسابيع، والأشهر عموما، لا يكاد يبدأ الأسبوع إلا وقد انتهى، مرور سريع للوقت، وربما الناس متفاوتون في هذا الشعور بناء على نسبة الإنجاز، وقدرة بعضنا على تنظيم وقته وحسن استغلاله فيما هو نافع، ومع ذلك، يبقى الشعور العام بأنه يمر سريعا.

وهنا ينبغي للعاقل أن يلتفت إلى عدة نقاط، منها:

أولا: أن يدرك أن هذه الأوقات الذاهبة هي جزء من عمره، هي حقيقة مهما حاولنا التهرب منها، فالإنسان في كل يوم يبتعد عن ميلاده، ويقترب من أجله، وقد قيل: (يا ابن آدم إنما أنت أيام، كلما ذهب يوم ذهب بعضُك)، وعجيب أمرنا، نفرح بمرور الأيام دون أن نفرق بين ما كان خيرا مفيدا، وما كان شرا ضارا، فلا قيمة حقيقية إلا لما كان إيجابيا، فهو الذي يفرح صاحبه به، وغير ذلك يتمنى صاحبه لو لم يفعله، مصداق ذلك ما ذكره الله تعالى عن صحف كل واحد منا حين يتلقفها يوم القيامة، هذا آخذ بيمينه وينادي: "هاؤم اقرؤوا كتابيه، إني ظننت أني ملاق حسابيه، فهو في عيشة راضية، في جنة عالية، قطوفها دانية.."، وآخر آخذ بشماله فينادي: "يا ليتني لم أوت كتابيه، يا ليتها كانت القاضية، ما أغنى عني ماليه، هلك عني سلطانيه..".

ثانيا: أن ننظم أوقاتنا، ومن تنظيمها ترتيب أولوياتنا، فقد تزدحم على أحدنا مسؤوليات وواجبات، وهنا لا بد من وضع الأهم في المقدمة، ثم المهم، ثم الأقل أهمية، وهكذا، ومن العبث الانشغال بالأدنى مع وجود الأعلى، أو الاقتصار على أحدها دون إعطاء الأخرى حقها، فلا بد من دربة على هذا التنظيم، ولا يجامل أحدا في هذا.

ثالثا: استغلال الوقت، ولا بد أن يكون في النافع، ومن هنا فلا يتصور في ذهن المؤمن أن يكون منشغلا بشر، هذا الأمر محسوم ابتداء، فأنا لا أوزع وقتي بين خير وشر، بل الشر خلفي ولا ألتفت إليه، وإن غلبتني نفسي وأنا البشر الخطاء، فسرعان ما ينبغي أن أنتبه إليه من غفلتي، بالتوبة والاستغفار والأوبة إلى الله تعالى، فالذنب مهما كان صغيرا هو ذنب لا يجوز احتقاره (لا تحقرن صغيرة... إن الجبال من الحصى)، وخطورتها تكمن في أنني قد أتعود عليها فلا أراها ذنوبا، أو أنها تجتمع عليّ فتكبر، وربما تجرني إلى ما هو أكبر منها، حينها يكون السقوط في أوحال الذنوب، وقد لا تستطيع مغادرة دائرتها.

لا يُتصوّر استغلال الوقت إلا في النافع، أنفاسي معدودة، وكل لحظة مرت لن تعود، وإن كنت تقرأ هذا المقال فقد مرت عليك دقيقة أو أكثر قد انقضت من حياتك، فليكن لأحدنا حزم وتصميم أن لا يكون ممن اتخذوا دينهم لهوا ولعبا، ممن يعيشون لشهواتهم، أو يظنون أن الدنيا عبث، وهذا تقصير واضح في فهم غاية الخلق حيث عبادته تعالى والقيام بأمره.

ولعل مرحلة الشباب تحديدا هي من أكثر المراحل التي يعيشها أصحابها بغرور ولهو، يظن نفسه في مأمن من أن تصيبه الابتلاءات، أو أن وقت التوبة بعيد فما زلت في ريعان الشباب، وهكذا ينشأ على الضلال والغرور، وتفوته خيرات كثيرة ربما ذكره أهله بها، أو أساتذته أو رفاقه، ولكنه في لهو ولعب.

رمضان يغادرنا، ولكنه يعود في كل عام، فهلا انتبهنا لأنفسنا، وأننا ربما لن نعود، نسأل الله أن يطيل أعمارنا في الصالحات، وأن يتقبل من الجميع صالح أعمالهم وقرباتهم ودعواتهم، وكل عام وأنتم بخير.