الأوليغارشية اللبنانية تحت الضغط

Untitled-1
Untitled-1

جو ماكارون* - (ريل كلير وورلد) 23/10/2019

ترجمة: علاء الدين أبو زينة

اضافة اعلان

منذ 17 تشرين الأول (أكتوبر)، خرج المحتجون اللبنانيون إلى الشوارع ضد الأوليغارشية الحاكمة. ولا يُظهر المتظاهرون أي علامة على التراجع عن مطلبهم بتنحي المسؤولين ومحاسبتهم.
كان الذي قدح زناد هذه الاحتجاجات هو قرار الحكومة فرض ضريبة على مكالمات "واتس-آب". وقد أخذت هذه الانتفاضة الشعبية الطبقة السياسية على حين غرة. وفي حين أن البعض قللوا من شأن هذه الحركة التي بلا قيادة ووصفوها بأنها "ثورة واتس آب"، فقد كانت المشاكل السياسية والاجتماعية والاقتصادية عميقة الجذور هي التي دفعت الكثير من اللبنانيين إلى الشعور بأن الأمور وصلت حداً لا يمكن تحمله.
كانت التأثيرات الخارجية حاسمة في تغيير جوهر حكم الأوليغارشية في لبنان على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية. وكان اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق، رفيق الحريري، في العام 2005 علامة فارقة. وأدت التداعيات السياسية في النهاية إلى إنهاء دور سورية كوسيط قوة رئيسي في لبنان. كما أنها خلقت أيضاً قسمة سياسية بين معسكر تدعمه إيران وسورية، وآخر تدعمه الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية. وفي أيار (مايو) 2008، وجهت إيران ضربة إلى النفوذ الأميركي-السعودي في لبنان عندما أخضع حزب الله تحالف 14 آذار عسكرياً في المواجهات التي جرت في جميع أنحاء لبنان. وكان الحدث المفصلي الثاني هو الانتفاضة السورية التي اندلعت في العام 2011. وقد امتد الصراع السوري إلى لبنان، مع انحياز القادة اللبنانيين إلى أطراف في ما أصبح في النهاية حرباً أهلية في سورية.
أصبح لبنان منذ ذلك الحين بمثابة الأزمة المنسية. وينصب تركيز المجتمع الدولي على الحفاظ على النظام السياسي والاجتماعي في البلد، ولسبب وجيه. فقد استضاف البلد اللاجئين السوريين وقوات حفظ السلام الدولية، وكانت هناك حاجة إلى إدارة النزاع البحري بين لبنان وإسرائيل حول الطرف المستفيد من استكشاف الغاز في شرق البحر المتوسط. وفي العام 2014، وافقت الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية وإيران على صيغة تتضمن تمكين السياسيين المحايدين نسبياً لقيادة البلاد.
وفي العام 2016، جددت واشنطن وطهران هذه الصفقة، التي جلبت إلى السلطة اثنين من المتنافسين، الرئيس ميشال عون ورئيس الوزراء سعد الحريري. وأصبح حزب الله تدريجياً صانع ملوك في السياسة اللبنانية بينما تراجعت القوى الخارجية. وتريد الانتفاضة الحالية إنهاء اعتماد الزعماء اللبنانيين على إدارة القوى العظمى وتفكيك النظام السياسي الطائفي الذي انبثق من اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية في لبنان قبل ما يقرب من ثلاثة عقود.
وفي هذه الأثناء، حدث تراجع تدريجي في نفوذ الزعيمين الأكثر أهمية في لبنان، سعد الحريري والأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله. وقد أضعف هذا التراجع النظام السياسي في البلاد. كما انسحبت الرياض تدريجياً من لبنان سياسياً ومالياً، مع تراجع النفوذ الإقليمي للمملكة العربية السعودية. وقطعت السعودية دعمها للحريري وحاولت دفعه إلى الاستقالة. وبعد أن أصبح يواجه تقلصاً في الدعم المالي الحاسم، بدأت قاعدة الحريري في الانكماش هي الأخرى، كما كان واضحاً في الانتخابات البرلمانية للعام 2018. وشهدت المدن والبلدات التي تدعم الحريري تقليدياً احتجاجات في الشوارع في الأيام القليلة الماضية؛ وليس هناك شيء يمكن أن يوقف الناس عن الاحتجاج.
كما تراجع القبول الوطني لنصر الله منذ تحول حزب الله في العام 2005 إلى طرف في الانحيازات الحزبية في السياسة اللبنانية لملء الفراغ الذي خلفته سورية. وكان لقرار نصر الله بالتدخل في سورية في العام 2013 بناءً على طلب من إيران أثر مالي سلبي على حزب الله ومؤيديه، لكنه أدى أيضاً إلى زيادة عدد القتلى في ساحة معركة أجنبية -ولم يُمنح هؤلاء المقاتلون في العادة جنازة عامة، ولم تُقدَّم تفسيرات لأسباب موتهم. وما يزال نصر الله مختبئاً منذ حرب تموز (يوليو) 2006 مع إسرائيل، وهو يتواصل مع الناس من خلال خطاباته التي تُبث على شاشات كبيرة بدلاً من الحضور بنفسه، مما يحد من تفاعله مع أنصار حزب الله. وبالإضافة إلى ذلك، أصبح النظام الإيراني يخصص للبنان وقتاً وموارد أقل خلال السنوات القليلة الماضية، مع توسيع طهران أنشطتها الإقليمية بينما أصبحت تخضع للعقوبات الأميركية.
تخلص نصر الله والحريري من التنافس السياسي الذي لطالما غذى الروايات الطائفية، وحشدا قواعدهما، وحصلا على دعم رعاتهما الإقليميين، لكنهما فقدا قيمتهما بالنسبة لأنصارهما.
الآن، أصبحنا نشهد فشلاً منهجياً في لبنان. فقد أصبحت وظيفة الدولة -كدولة ريعية بشكل طائفي لتقاسم السلطة- تتعطل. وما تزال السياسة اللبنانية مشلولة منذ العام 2005، وغير قادرة على حل القضايا المتعلقة بالسلطة وتوزيع الموارد، وعاجزة على تنفيذ الإصلاحات اللازمة. وقد أدت الحرب الأهلية السورية إلى إغلاق تجارة لبنان مع جيرانه وتباطؤ النمو الاقتصادي للبلاد. وأفضى ذلك إلى تعرية المشاكل الهيكلية في البلد. ويتجاوز الدين العام الآن 85 مليار دولار؛ أي أكثر من 150 % من الناتج المحلي الإجمالي. ومعظم هذه الديون مستحقة داخلياً للبنوك اللبنانية. ولا يتم توفير الخدمات الأساسية بشكل مناسب، بما في ذلك الكهرباء والمياه والهواء النظيفين والنقل العام وجمع القمامة.
كما يشكل التفاوت المذهل في الدخل في لبنان قضية مهمة بدوره أيضاً. ووفقاً لمنظمة أوكسفام، فإن سبعة من أصحاب المليارات اللبنانيين لديهم ثروة شخصية تبلغ 13.3 مليار دولار؛ أي عشرة أضعاف ما يملكه نصف السكان. وعلاوة على ذلك، يمتلك أغنى 1% في لبنان ثروة تزيد عما يملكه 58 % من كل السكان اللبنانيين. وقد أثار المحتجون مسألة هذا التفاوت في الدخل، والذي ربطوه بالفساد. وعبر المتظاهرون عن عدم رغبتهم في دفع فاتورة الأزمة الاقتصادية -على القادة اللبنانيين أن يدفعوا بدلاً من ذلك. ولكن، ما يزال من غير الواضح كيف يمكن تحقيق هذا الهدف. وبالإضافة إلى ذلك، أصبح القطاع العام اللبناني متضخماً وغير فعال ومنخفض الأجور وفاسداً إلى حد كبير. وسوف يؤدي أي قرار بخفض حجمه من دون تقديم وظائف بديلة إلى إنهاء العرض الأساسي للنظام الريعي. ويبدو أن معظم السياسيين ليسوا مستعدين لمواجهة التداعيات، بالنظر إلى الموارد القليلة التي يتلقونها من داعميهم الإقليميين.
تبدو هذه لحظة محورية في التاريخ اللبناني الحديث. وقد وبخ المحتجون الطبقة السياسية برمتها، وكذلك أجندتها الطائفية التي تخفي شهوة للسلطة. وما تزال الأوليغارشية متحدة الآن على أمل إدارة هذه الاحتجاجات من خلال تحسين ظروف الوضع الراهن، بدلاً من تغييره. وعلى عكس احتجاجات العام 2005 التي كانت تتحدى النظام السوري، فإن هذه الاحتجاجات يديرها مواطنون عاديون وليس قادة سياسيين. وهي لا مركزية، حيث تنشط في المناطق الريفية والحضرية على حد سواء. وتظهر المجموعات المحلية من المحتجين في كل مدينة. وهي تقوم، بالمناسبة، بتنسيق أنشطتها من خلال "واتس– أب"، نفس منصة الاتصالات التي تريد الحكومة فرض الضرائب عليها. ويبدو الحراك اللبناني، حتى الآن، انتفاضة بلا قيادة ومن دون خريطة طريق واضحة للمطالب أو لآلية لتنفيذها. ولعل هذا هو الجانب الأكثر إثارة والأكثر مدعاة للقلق في هذه الانتفاضة. لكن الشارع اللبناني استيقظ، ولن يكون من السهل إرسال المحتجين ومطالبهم إلى السبات مرة أخرى.

*زميل مقيم في المركز العربي في واشنطن العاصمة.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Lebanon's Oligarchy Under Pressure