توتر متواصل.. هل تزعزعت الثقة بجيش الاحتلال داخل الكيان؟

أرشيفية
أرشيفية
القدس المحتلة - يشهد كيان الاحتلال استقطابا متزايدا بين السياسيين اليمينيين والقادة العسكريين والأمنيين، على خلفية التنافس السياسي على قيادة الدولة وتقرير مساراتها، وتباين نظرة الطرفين إلى السياسة المحلية والعالمية.اضافة اعلان
ويسهم هذا الاستقطاب في تراجع ثقة الجمهور بالمؤسسة العسكرية، كما تظهر بعض استطلاعات الرأي، وساهم العدوان على غزة في زيادة حدة هذا الاستقطاب ووصوله إلى مستوى غير مسبوق من التراشق العلني بين الطرفين.
أبرز تجليات الخلاف بيان النخبة السياسية بقيادة رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو وحكومته المتطرفة مع القيادة العسكرية جاءت منتصف الشهر الحالي حين أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت أنه يعارض توجهات نتنياهو بشأن غزة ما بعد الحرب، قائلا إنه سيعارض أي حكم عسكري إسرائيلي للقطاع، لأنه سيكون دمويا ومكلفا وسيستمر أعواما، وهو ما قابله ردود غاضبة من كل من رئيس الوزراء ووزراء اليمين مثل إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش.
ويشكل الصدع الداخلي التاريخي جزءا أساسيا من هذه الأزمة، في حين يسهم التباين الإسرائيلي الأميركي بشأن التعامل مع الحرب في تشجيع معارضي نتنياهو على التصعيد إلى هذا المستوى.
وفي هذا الشأن تناولت ورقة بحثية لأستاذ العلوم السياسية الأميركي غاي زيف، نشرت مؤخرا في مجلة العلوم السياسية الفصلية، وضع العلاقات المدنية العسكرية في دولة الاحتلال، وجذور التباين الفكري والسياسي التي تعود إلى فترة مبكرة من نشوء الدولة.
واستند البحث إلى تحليل محتوى مجموعة متنوعة من وسائل الإعلام، كالصحف الإسرائيلية، ووكالات الأنباء، والخدمات السلكية واللاسلكية، إضافة إلى إجراء مقابلات شخصية مع خبراء في الديمقراطية الإسرائيلية، فضلا عن بيانات استطلاعات للرأي.
وتشير الورقة البحثية إلى مركزية دور الجيش في السياسة الإسرائيلية، "وإحكام قبضته على التفكير الإستراتيجي والنشاط الدبلوماسي للإحتلال"، بفعل انتصاراته في حروب (1948، 1956، 1967)، وأن الرقابة المدنية لم تكن قوية على الإطلاق.
وعلى الرغم من تأسيس مجلس الأمن القومي في الكيان المحتل عام 1999 كهيئة تنسيقية، على غرار نظيره في الولايات المتحدة، ملحقا برئيس الوزراء والحكومة ومكلفا بإصدار تقييمات وتوصيات بشأن سياسة الأمن القومي، فإنه لم يكن له تأثير يذكر، في حين استمرت هيمنة مديرية التخطيط في الجيش على التخطيط الإستراتيجي.
وفي مسار معاكس وبطيء، أسهمت النكسات التي تعرض لها جيش الاحتلال، كحرب 1973 إلى اهتزاز الثقة به وتشوه سمعته، وهو الأمر الذي استمر في حروب لاحقة لم يتمكن من تحقيق نتيجة حاسمة فيها، كاجتياح لبنان واحتلال جنوبه الذي تحول إلى "فيتنام الإسرائيلية" وصولا إلى الانسحاب منه عام 2000.
كما عجز عن تحقيق نتيجة حاسمة في حرب لبنان عام 2006، وانسحابه من غزة عام 2005 ثم سيطرة حركة حماس عليها وإطلاقها الصواريخ منها، وعجز الجيش عن تحقيق حسم في حروب الأعوام 2008-2009، 2012، 2014، 2021.
كما كان لتبني الجيش مشروع اتفاق التسوية السلمية، وصولا إلى توقيع اتفاق أوسلو، ثم فشل هذا المسار دورا أيضا في توجيه اللوم الشعبي والنخبوي إليه.
وفي دافع آخر للاستقطاب المدني-العسكري، يبرز وجود تقليد يدخل بموجبه قادة الجيش معترك السياسة عقب تقاعدهم، وينافسون للوصول إلى رئاسة الوزراء في دولة الاحتلال، فيما يصفه الباحث غاي بـ"هبوط كبار الضباط بالمظلات إلى السياسة بعد التقاعد".
وفي هذا نجد أن 19 من رؤساء أركان الجيش الـ23 دخلوا معترك السياسة، وكان 3 من رؤساء وزراء دولة الاحتلال الـ13 وهم إسحاق رابين، وإيهود باراك، وأرييل شارون، جنرالات متقاعدين، وكان "رابين وباراك" رئيسي أركان للجيش.
وهذا التقليد يجعل القادة الحاليين والمتقاعدين خصوما محتملين لسواهم من السياسيين غير العسكريين، وخصوصا القوميين الشعبويين، وهو ما يدفع إلى تبادل النقد والتحشيد المبكر للتنافس السياسي المستقبلي، مما يسهم في نزع الشرعية عن قيادات الجيش وتصويرهم كنخبة يسارية منعزلة عن المجتمع واهتماماته كما اعتاد اليمين على وصفهم.
وبالفعل يظهر جنرالات الجيش ميلا إلى تشكيل أحزاب الوسط أو يسار الوسط وفقا للباحث، مما يجعلهم منافسين تقليديين لليمين واليمين المتطرف، ولعل ذلك يعود إلى ميل الجيش تاريخيا إلى العلمانية، وسيطرة نهج عملي براغماتي على عمله.
وفي حين كان هذا الأمر مستقرا في الجيش، فقد عمل المتدينون على تغييره عقب هزيمة عام 1973، التي رأوا أنها ناتجة عن عدم استعداد الضباط والجنود غير المتدينين للتضحية.
ولتغيير تركيبة الجيش تم فتح المسار الديني لدخوله عبر الـ"يشيفوت هسدر"، وهي معاهد لاهوتية جمعت بين دراسة التوراة في مدرسة دينية مع الخدمة العسكرية، والـ"ميشينوت"، وهي أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية التي تهدف إلى إعداد المجندين الدينيين قبل خدمتهم.
وفي الوقت الحالي يلتحق قرابة نصف الرجال المتدينين القوميين في سن التجنيد بواحدة من العشرات من "يشيفوت هسدر" أو "مشينوت"، فيما يعد رئيس الأركان الحالي "هرتسي هاليفي" أول رئيس أركان متدين للجيش منذ تأسيسه.
وفي حين يلجأ القادة الشعبويون حول العالم إلى تسييس الجيش لفرض سيطرتهم على المجتمع، فإن الحالة في دولة الاحتلال معكوسة، إذ يلجأ هؤلاء إلى تحجيم نفوذ الجيش للتمكن من فرض أجندتهم السياسية.
بعد انتخاب نتنياهو رئيسا للوزراء عام 1996، ظهر تقليص تأثير الجنرالات على سياسة الحكومة بشكل حاد، فقد كان ينظر إليهم بعين الريبة ومعتبرا إياهم يساريين يدفعون إسرائيل إلى تقديم تنازلات كاسحة كجزء من عملية السلام التي لم يتبنها هو طوال فترة رئاسته للوزراء.
وأيضا كان نتنياهو كثيرا ما يهمش المؤسسة الأمنية في عملية صنع القرار، مفضلا بدلا من ذلك الاعتماد على الموالين لحزبه.
ويؤرخ غاي لانطلاق الموجة الأشد من هذا الاستقطاب بالخسارة المهينة التي مني بها نتنياهو في انتخابات عام 1999، بتأثير من الانتقادات اللاذعة من قبل حزب الوسط، الذي شارك في قيادته رئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق أمنون ليبكين شاحاك، إلى جانب الهجمات التي شنها زعيم حزب العمل إيهود باراك، وهو نفسه رئيس سابق للجيش الإسرائيلي.
فكانت النتيجة التي توصل إليها نتنياهو، بعد ولايته الأولى المضطربة وهزيمة إعادة انتخابه، واضحة لا لبس فيها "الجنرالات يمثلون أكبر عقبة أمام مسيرته السياسية". وعزز ذلك قناعته بضرورة تحجيم الدور السياسي لمؤسسة الجيش، بل وجميع المؤسسات غير المنتخبة، كالقضاء والإعلام، وهو المسار الذي يسهم في تشكيل السياسة الداخلية الإسرائيلية منذ ما لا يقل عن عقدين من الزمن.
وأظهر استطلاع للمعهد في تشرين الأول (أكتوبر) 2021 أن نحو 78 % من الجمهور يثقون بالجيش الإسرائيلي، وهو أدنى رقم منذ عام 2008. وعلى الرغم من أن الجيش لا يزال مؤسسة الدولة الأكثر ثقة، فإن الهجمات الشعبوية المستمرة على جميع مؤسسات الدولة تهدد بمزيد من تآكل مكانته في المجتمع الإسرائيلي.
وأتى "طوفان الأقصى" وفشل الجيش في التنبؤ به ومواجهته كضربة غير مسبوقة فاقمت من أزمة ثقة الجمهور الإسرائيلي بجيشه، وعزز من هذا الأمر مستوى النقد والاتهامات التي طالت قادته من قبل وزراء اليمين في حكومة نتنياهو.
ويشير هذه المستوى غير المسبوق من الاستقطاب إلى تباين إستراتيجي وتكتيكي بشأن الحرب في قطاع غزة، على صعيد تقرير التوجه بشأن اليوم التالي للحرب، ومما يغذي هذا الاستقطاب الموقف الأميركي الناقد لامتناع نتنياهو وحكومته عن تقديم تصور لتسوية الحرب بشكل ملائم للسياسة الأميركية في الإقليم.-(وكالات)