الختيارية

عندما بلغ السابعة والسبعين قام رائد الفضاء السابق جون كلين بمغامرة الانضمام إلى فريق فضائي في مهمة استكشافية عبر الفضاء، متحديا بذلك الفكرة المستقرة في الأذهان عن الصورة البائسة للمسنين والدور التقليدي المتوقع منهم، حيث نفترض فيهم الانكفاء على هامش الحياة، بانتظار قدوم الموت.

اضافة اعلان

وتستدعي تلك الصورة النمطية حول المسنين أن يبقوا مكتفين بمراقبة الشباب يخوضون غمار التجربة، مستسلمين لتجاهل الجهات الرسمية خصوصية متطلباتهم في سبيل عيش يصون كرامتهم ويكفيهم شر الانسحاب القسري المستند إلى نظرية أرذل العمر التي نصل إليها في الأردن قبل الأوان بكثير!.

وعوضا عن تكريس سياسات وبرامج تقوم على مشاركة هذا القطاع في حركة التطوير من خلال الاستفادة من تراكم خبراتهم الطويلة في شتى مناحي الإنتاج، نتواطأ أحيانا مع الزمن ضدهم، ونزج بهم في عتمة العجز والحضور الشكلي الضروري لغايات الديكور العشائري، حيث يقتصر دورهم على لعب دور مرسوم لا يتعدى التفوه بعدة جمل مكرورة في الجاهات والعطوات أو الجلوس الطويل عند عتبة البقال المجاور والتصدي للوقت الذي يتأبى على القتل، فيظل مثل معظم أفلام السينما المصرية وربما مثل الحياة نفسها: مكرورا متوقعا بطيئا ثقيلا خاليا من الإثارة والتشويق مهما استهلكوا منه في مراقبة الآخرين، والثرثرة مع العابرين غير المكترثين، وإسداء نصائح لا تخلو من "حشرية".

وفي كثير من الأحيان ترى ذلك المسنين يتفرغ على نحو كامل لمقارعة الزوجة وهي في معظم الأحيان تصغر الزوج بعشر سنين كحد أدنى وفقا للمعادلة الشائعة التي تروج لفارق السن المثالي، ما يخلق جوا من الغربة وعدم الائتلاف يترسخ مع مرور السنين. ويبدو شائعا هذا التنافر بين الأزواج المسنين الذين يقضون أيامهم في مقارعات عبثية مستمرة حول تفاصيل غير مجدية يتخللها تعبير دائم عن خيبة من جحود الأبناء واستهتار الأحفاد والتحسر على أيام الصبا وهي بالضرورة زاهية مشرقة وأكثر أهمية من الحاضر الجاحد غير الواعد إلا بضنك العيش!.

والحق انه لا يمكن توجيه اللوم إلى المسنين لتشبثهم بالحياة وسعيهم إلى ابتكار أسباب البهجة كي يصبح حاضرهم أقل قسوة وجفاء، غير أننا من المفترض أن نلوم أنفسنا كأفراد ومؤسسات حكومية وأهلية، بسبب التجاهل المفرط لهذه الفئة من البشر الذين قدموا لعائلاتهم ولمجتمعهم الكثير، وما يزالون مؤهلين، وما برحت لديهم الرغبة والطاقة في الاندماج والمشاركة في عملية الإنتاج وصناعة حكمة الحياة.

من هنا يبدو الاحتفال بالأكثرية الشبابية ديموغرافيا في الأردن مبالغا فيه أحيانا، لأنه يتضمن شيئا من التنصل ونكران الجميل لجيل سطع في دنيا العطاء، فحرمناه من غروب رشيق من خلال معادلة تواطأنا معا على تبنيها. غافلين عن حقيقة شديدة البديهية: نحن أيضا غير معصومين عن الشيخوخة، ولسوف يتبعنا جيل أكثر شبابا يعمل، حكما، على تهميشنا، ودفعنا إلى الصفوف الخلفية، ضيقا بوجودنا المعرقل، باعتبارنا عبئا ينبغي الخلاص من ثقل وجوده.

لا يكفي أن تخصص الدولة يوما لتكريم المسنين، كفرض كفاية، ولا يكفي أن تتذكر العائلة الوفاء بالتزاماتها تجاههم في المناسبات المتباعدة من قبيل القيام بالواجب درءا للملامة، لأن التكريم الحقيقي والاعتراف اللائق يكمنان في تفعيل دور المسنين واستثمار خبراتهم وإعادة الاعتبار لدورهم السابق والإيمان بأنهم قابلون للحياة والعطاء، توقا إلى الوصول نحو مجتمع أكثر وفاء وأقل انفصالا عن الجذور. 

[email protected]