المعنّفات في الأرض

 مما لا شك فيه أن الفرد الذي يلجأ إلى استخدام العنف اللفظي أو الجسدي في تعامله مع الآخرين هو ضعيف الشخصية، يعاني بالضرورة من خلل سلوكي خطير، يجعله عاجزا عن التعبير عن وجهة نظره، ما لم يستعن بقبضة يده كوسيلة وحيدة للفت النظر ونيل الاعتراف، وهو نموذج يستحق الرثاء والمساعدة الطبية في جميع الأحوال.

اضافة اعلان

ويؤكد مختصون نفسيون أن مثل هذا النموذج قد تعرض في طفولته إلى خطاب تربوي غير سوي، بل شديد القسوة، قائم في جوهره على الضرب والتعنيف، وخال من مفردات الحب والحنان، ما يفاقم لديه حالة حرمان عاطفي وتنامي شعور بالكراهية والعداء والرغبة في إلحاق الأذى بالآخرين كسلوك تعويضي ليس إلا.

ولا يخطر ببال هذا النموذج العصابي فكرة الرضوخ للعلاج النفسي اللازم لغايات تعلم آليات ضبط النفس وطرائق التحكم بانفعالات الغضب، ذلك انه لا يقر أصلا بأنه مريض بحاجة عاجلة إلى علاج حثيث، وإلى إعادة تأهيل كي يصبح قابلا للتعاطي الإنساني مع الآخرين من دون الوصول إلى مرحلة عراك ينجم عنه في العادة الكثير من الأذى،

بل يذهب وهو فاقد الأهلية وغير ناضج على المستوى النفسي والعاطفي لاتخاذ قرار الزواج وتكوين أسرة، وسوف يفشل حكما في تحمل تبعات قرار مصيري كهذا، ما يجعل الزوجة المنكوبة والأطفال عاثري الحظ، مجرد ضحايا عزل في مرمى الحقد والكراهية والسلوك المضطرب، ويوسع دائرة المعاناة، ويضخم المأساة إلى حدودها القصوى.

ولا يبدو مستغربا والحالة هذه ان يغدو العنف الأسري من الظواهر السلبية التي تميز مجتمعنا بكافة شرائحه، وذلك ليس حصرا على فئة ذوي الدخل المحدود كما قد يتوهم بعضهم، فثمة عنف يمارس من قبل أزواج حاصلين على شهادات أكاديمية عليا، ويحتلون مواقع اجتماعية بارزة ولا ينقصهم الثراء أو الوجاهة!

بالمقابل هناك ضحايا صامتات على العنف يرتدين الحلي الفاخرة، ويغلقن أبواب بيوتهن على الأسرار الحزينة بأمل بعيد بتحقق انفراج ما.

وقد بلغت حالات العنف الأسري المسجلة رسميا في الأردن وفقا لتصريح وزيرة التنمية الاجتماعية خمسة الآف حالة سنويا!

بطبيعة الحال فإن الواقع أشد مرارة مما تفصح عنه السجلات الرسمية، والخطورة من وجهة نظري تكمن في الموقف السلبي المستسلم الذي تتخذه فئة كبيرة من النساء المعنفات، خشية التعرض لعواقب غضب الزوج حيث التمادي في مزيد من الظلم والقسوة.

تعض المرأة المعنفة على جراحها، وتحجم عن اتخاذ أي إجراء قانوني من شأنه الحد من سلوك الرجل العدواني، المستمد نفوذه من تخاذل المرأة واستلابها وقبولها بمقولة القسمة والنصيب، عاجزة عن الاحتجاج أو الشكوى، فيدفع الأطفال ثمنا باهظا لسكوت والدتهم، ويفقدون بالتالي ثقتهم بقدرتها على توفير الأمن والأمان لهم أسوة بباقي الأمهات.

علينا الاعتراف بتفشي هذه الظاهرة المؤسفة في مجتمعنا، كي نتمكن في تحديد أسبابها ودراسة كل حالة على حدة، للوقوف على العوامل المؤثرة في تنامي هذه الظاهرة من جهل وفقر، إضافة إلى النظرة المتخلفة السائدة للمرأة ككائن من مرتبة دنيا لا بأس من تأديبها بين الحين والآخر، وثمة أمثال شعبية يتبناها بعضهم حتى يومنا هذا تصب كلها في تعزيز النظرة الدونية للمرأة. 

ومن البديهي أن تصل الضحية إلى مرحلة خطيرة من الخضوع لمعذبها لدرجة التواطؤ ضد نفسها واستمراء المذلة والإهانة لتصبح تلك الصيغة هي التعريف الوحيد لهذا النمط من العلاقات الشاذة المركبة بين الضحية وجلادها.

ورغم كل الجهود المبذولة من قبل الجهات المختصة في توفير وسائل الحماية للنساء المضطهدات وتشجيعهن للتقدم بالشكوى انتصارا لحقهن في حياة أقل إساءة وتجريح، غير أن هذه الفئة بالذات تتردد كثيرا قبل أن تفكر في التمرد على هذا الوضع غير الإنساني المدمر الذي يستنزف الطاقة ويبتذل الروح، ويطرح سؤال الكرامة، وحقنا البديهي في صونها كواحد من أهم حقوق الإنسان.

[email protected]