ثقافة جديدة لما بعد "داعش"

إنّ إعلان الحكومة العراقية الانتصار على "داعش" في الموصل وتهيؤ العراقيين لتحرير مناطقهم من "داعش" لا يُسقِط الجدلَ الذي أثاره حكم "داعش" في السنوات الماضية، سواء في العراق أو في سورية، لجهة أن هذا الحكم عكس تصوراً إسلاميّاً معيّناً تسرّب عبر العالم، ومن خلال مشهدية دموية، تشير في مضمونها الواسع إلى أن ذاك التصوّر غير مؤهل، على المستويين؛ العقدي والقيمي، لإنتاج منظور قيمي تتكئ ركائزه على احترام ذاتية الإنسان وصون كرامته وحقوقه.اضافة اعلان
أقام التنظيم الإرهابي (المستند في حكمه إلى مقولات إسلامية وتقليد تراثي، لم يتعرض للنقد الجذري المطلوب أوالرفض الكامل) حكمه على زعم نشر الفضيلة ومحاربة الرذيلة، وجعل في صُلب ذلك التقييد الصارم على النساء وعلى لباسهن وحركتهن وتصرفاتهن وحرمة معالجتهن من قبل أطباء رجال وسوى ذلك، وكذلك التضييق على هيئة الرجال وشكلهم ومحاسبتهم على أدق التفاصيل، مثل لبس الجينز وقص الشعر واستخدام الكريمات والتدخين وسوى ذلك من أمور تُحيلنا إلى موضوع هذه المقالة التي تهجس بالحثّ على ضرورة أن تؤسس هذه التجربة المُرّة في العالم العربي لثقافة جديدة تُعيد تعريف الفضيلة، عبر الحسم الكامل بأنه لا فضيلة في ظل قمع حرية الإنسان وامتهان كرامته والنيل من حقوقه وذاتيته، ومن ذلك حرية جسده.
التحدي أمام إنتاج ثقافة دينية جديدة في مرحلة ما بعد القضاء العسكري على "داعش" تكمن في أن تكون حرية الإنسان وكرامته والاعتراف بحقوقه وذاتيته في صلب أي إصلاح ديني. والمؤسف أن  ما نراه حتى اللحظة هو وعي ديني مأزوم ومرتبك ومشوش ومتردد أمام خيارات الحداثة والعصر، ويحاول التعويض عن عدم اتساقه الذاتي أمامهما بالاتجاه إلى وعي ضدي أو تشدد ديني يُعنى بالشكل، وينهض على تشييء الإيمان، الأمر الذي يجعل الإيمان غير متصالح مع المعرفة، والتدين خالياً من الثقافة، وهي أصولية تنداح في خطّ العولمة وموجتها، وتستعين بتقنياتها وأدواتها في التوسع والانتشار والترويج لذاتها، وتكثير مناصريها الطامحين لمواجهة حداثة ليست من صنعهم وعالمٍ غريبٍ عليهم، لكنه يبقى يستهويهم ويجذبهم، وهذا مصدر الأزمة في وعيهم؛ أيْ مصدر تشددهم، حيث التشدد الديني والأخلاقي يعلن عن هويته ويستعير اتساقه المزعوم أو الموهوم بالسعيّ اللحوح للخروج على قوة إغراء الحداثة والعولمة واجتذاب الدين لساحتهما، ومنعه أكثر فأكثر من تفسير العديد من الظواهر التي كانت حكراً عليه وخاضعة لتفسيراته وتأويلاته ورواياته.
والحقيقة أنه ليس جديداً الجدل بشأن ما إذا كان الإنسان يملك جسده وأنّ له الحق في التصرف به، بشرط التزام قاعدة "لا ضرر ولا ضِرار"، أم أن هذه الملكية من حق الأديان والمجتمع والخالق ومن يدّعون النطق باسمه من البشر.
الذين ينظرون إلى أن من حقوق الإنسان ولايته على نفسه، ومن ذلك جسده بالطبع، يرون أن هذه الولاية لا تتعارض مع الأخلاقية والفضائل، في حال التزام القاعدة المذكورة. هذا يقود إلى مبحث طويل في الأخلاق والفلسفة والدين والتشريعات، وذلك بالتعرض لسؤال جوهري عمّا إذا كانت الفضيلة لا تتحقق إلا بنكران الذات. هنا يجدر التذكير بأنه منذ آلاف السنين ذهب أرسطو إلى أن ثمة تشابهاً بين الفضيلة والسعادة يكمن في أنهما يُطلبان لذاتهما، مؤكداً أنّ اللذة شرط ضروري للسعادة، وهما مدخلا الإنسان إلى الفضيلة.