غضب في مدينة الحب

تخيّرت الكلمات، بدءاً من العنوان اعلاه، بعناية فائقة، واجهدت نفسي في جعل هذه المادة بعيدة عن الاثارة والتأويل وسوء الفهم، نظراً لحساسية الموضوع، وزمان الحدث وموضع وقوعه، ومكانة الشخصية المخاطبة بهذه العجالة، لعلني اتمكن من التعبير عن عواطف محض ذاتية مختلطة، املتها صور صادمة حقاً، ومشاهد مؤلمة منقولة عبر فضاء البث المباشر من مدينة بيت لحم، صباح يوم الاحتفال بعيد الميلاد (حسب التقويم الشرقي) احسب انها ستظل محفورة في الذاكرة العامة الى اجل غير معلوم.اضافة اعلان
ومع ان مفردة غضب قد لا تكون دقيقة في وصف ما جرى في مدينة المهد، وان اللغة العربية زاخرة بالمترادفات الأكثر انطباقاً على الحدث الذي وقع في ذلك اليوم الماطر، الا انني انتقيت هذه الكلمة المخففة بعينها، كي لا يقع المرء في وهدة التهويل والتحريض والمبالغة، كما رغبت في ان اسمي مدينة بيت لحم باسم مدينة الحب، رغم ان لها اسماء عديدة لا تقل جمالاً، وتبعث على الاعتزاز، مثل مدينة المحبة، والسلام، والتسامح، والتعايش والاخاء المسيحي الاسلامي، عدا عن كونها مدينة المهد، مدينة السيد المسيح.
ولمن فاتهم رؤية المشهد الذي لا سابق له في بيت لحم، ولا سيما في عيد الميلاد، فقد تم استقبال بطريرك طائفة الروم الارثوذكس ثيوفيلوس الثالث من قبل المئات من ابناء رعيته بالأحذية البالية والحجارة والبيض الفاسد، هتفوا ضده بأقسى الكلام، وحاولوا منعه دخول الكنيسة بالقوة، جراء ما ينسب للقائم والمؤتمن على احوال ابناء رعيته وممتلكاتهم من تهم ثقيلة، وتصرفات مشينة، ليس اقلها التواطؤ على بيع ونقل عقارات كنسية ثمينة، بعضها في القدس وبعضها الآخر في مناطق فلسطينية على الساحل وفي الجليل، لصالح منظمات اسرائيلية.
كان مشهد البطريرك مثيراً للشفقة، وباعثاً على الرثاء، وهو يُنقل من سيارته الفاخرة، حتى لا نقول تهريبه تحت الحراسة، الى باص صغير يتبع لقوات الامن الفلسطينية، التي بذلت كل ما في وسعها، كي لا يتم الفتك بالرجل المسن، من جانب جمع شيب وشبان اغلقوا الشارع، واعترضوا الموكب بقوة، بينهم رؤساء بلديات وهيئات وشخصيات اعتبارية وازنة، ومواطنون يتميزون غضباً، ويشعرون بالعار والشنار والخديعة، وما الى ذلك من مشاعر ملتهبة، جراء ما فعله الراعي بأوقافهم المتسربة الى عدوهم المباشر.
والحق انه لم يسرّني المشهد بتاتاً، ان لم اقل انه احزنني جداً، وانا ارى صاحب الغبطة، بهالته الشخصية، ومكانته الرمزية، وقداسته الدينية، يرمى بالحجارة المتطايرة، ويهان بقسوة وفظاظة، لا تليق بسنه على اقل تقدير، فما بالك والاجواء كانت اجواء عيد، والمكان ساحة المهد، وعدسات المراسلين تلتقط كل شاردة وواردة، بما في ذلك مشهد البطريرك المذعور خوفاً على حياته، التي كاد ان يختتمها على نحو لا يتمناها اي انسان لنفسه، حتى وان اقتصر الضرر المادي على جرح في الجبين، او رضة في الكتف، وحدث ولا حرج عن مبلغ الخسائر الادبية والاخلاقية التي لا تعوّض.
اقول ذلك وانا من بين اوائل من اثاروا قضية بيع الاوقاف الكنسية في العام الماضي، بل وفي مقدمة من طرحوا المسألة على الرأي العام عبر "الغد"، حين فاحت رائحة غير طيبة من اعطاف هذا البطريرك، وحامت حوله شبهات كثيرة، وراجت انباء البيوعات واخبار تأجيرها لجمعيات صهيونية معروفة بسعيها المحموم لتهويد القدس بكل السبل الممكنة، ثم واصلتُ الحضّ على عمل كل ما يمكن عمله، لإيقاف هذه المهزلة الجارية تحت سمع وبصر الجميع، خصوصاً في الاردن وفلسطين، حيث للحكومتين فيهما حق التصديق على تنصيب البطاركة من امثاله.
في بداية الامر، كنت اخشى ان اكون متدخلاً فيما لا يخص احداً سوى مرجعيات ومفكري وقادة الطائفة الارثوذكسية حصراً، الا ان تقديري ان المسألة فوق طائفية، وانها قضية وطنية دون مراء، حملني على مواصلة الاضاءة على الافعال الموثقة بالمستندات، التي اصطلح الجميع على وصفها كأفعال خيانية مدانة، يقارفها رجل دين يوناني، ويفعلها من وراء ابناء رعيته العرب الفلسطينيين، الذين علت اصواتهم استنكاراً، وتوالت وقفاتهم احتجاجاً، في القدس وبيت لحم والجليل، على البطريرك الضارب عرض الحائط بكل المحرمات الوطنية.