في شغب الجامعات: حتى لا تَضيعَ البوصلة أو تضيّع!

 

أضحت أحداث الشغب الجامعية، التي تزايد عددها، وتوسعت رقعتها لتشمل الجامعات العامة والخاصة، وتمددت في جغرافيتها من الشمال إلى الجنوب... أضحت مادة خصبة لوسائل الإعلام الخارجية والمحلية، على اختلاف أجنداتها ودوافعها!

وقد سمعنا وقرأنا العديد من التحليلات التي تلقي باللائمة على ما يسميه البعض، تضييق هامش الحريات في الجامعات، وعلى العشائرية كأبرز الأسباب المؤدية إلى هذه الظاهرة المقلقة التي باتت تؤثر على الدور الأكاديمي الذي يفترض أن تقوم به الجامعات، وتحط من سمعتها، وبالتالي تؤثر على قدرتها في استقطاب المزيد من الطلبة غير الأردنيين، ناهيك عن إمكانية تراجع تقييمها من قبل المؤسسات الدولية التي تعنى بالتعليم العالي!

ولكننا نرى أن هذه التفسيرات، على افتراض براءتها، تجانب الصواب وتفتقر إلى الموضوعية! فمن جانب لم تكن جامعاتنا تشهد مثل هذه الأحداث في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، رغم المضايقات التي كان يتعرض لها قادة وأعضاء الجمعيات الطلابية، والملاحقات التي كانت تصل إلى حد الحرمان من الوظائف الحكومية، بل وعدم الحصول على شهادة حسن سلوك تمكنهم من السفر للعمل في الخارج! أما اليوم فهناك اتحادات طلابية منتخبة في الجامعات، وليس هناك ما يمنع الطلبة من الانتماء إلى الأحزاب من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.

ومن جانب آخر، فإن العشائرية لم تكن في يوم من الأيام أمراً طارئاً على مجتمعنا، بل هي مؤسسة متجذرة في واقعنا، وتلعب دوراً محورياً في تمتين الروابط بين مختلف شرائح المجتمع، وتمنع تحول الأحداث الفردية إلى مشاكل جماعية، مع استثناءات محدودة حاول فيها بعض من أفَلَ نجمُهم تجييشَ العواطف العشائرية للعودة إلى الواجهة ولكن من دون جدوى! إذ سرعان ما كان ينقلب السحر على الساحر!

ولا يساورنا أدنى شك بأن العشائر والعشائرية وما يسمّى "هامش الحريات" براء من هذه التهمة براءة الذئب من دم ابن يعقوب. ونجزم أن أبرز الأسباب التي تقف وراء هذه الظاهرة يتمثل في تضعضع منظومة القيم بين أفراد المجتمع، وخصوصا فئة الشباب دون سن الثلاثين. ونعتقد أن هناك العديد من العوامل التي أدت الى هذا الواقع المؤلم، لعل من أبرزها عدم استيعاب المجتمع للنقلة الثقافية والاجتماعية التي برزت منذ أوائل التسعينيات، وتراجع دور الأسرة في الرعاية المثلى للأبناء نتيجة الأوضاع الاقتصادية التي باتت تستحوذ على الجانب الأكبر من اهتمام أرباب الأسر، وتدفعهم بعيدا عن متابعة سلوكيات أبنائهم وأدائهم التعليمي. حيث لم يعد من المستغرب أن تجد بين هؤلاء من لا يعرف المستوى الدراسي لأبنائه واسم المدرسة التي يدرسون فيها!

أما العامل الثاني فيتمثل في ضعف العملية التربوية والتعليمية برمتها بعد أن فقد المعلم ثقته بنفسه، أو أفقده المجتمع والمؤسسات ذات العلاقة ثقته بها، حيث تراجع دور المعلم ليس في المساهمة في بناء وتوجيه المجتمعات المحلية فحسب، بل وفي المدرسة التي يعلّم فيها في ضوء حالة من الإحباط وعدم الاكتراث أنتجتها الرواتب الهزيلة وتعديل التشريعات والممارسات التي جعلت المعلم الحلقة الأضعف في العملية التربوية؛ حتى بات أمراً مألوفاً اضطرار الكثير من المعلمين لترك واجباتهم التدريسية والوقوف على أعتاب المحاكم، بل وربما يودعون السجن لمجرد زجرهم هذا الطالب أو ذاك! وحتى لا نقوّل ما لم نقل، أو نُفهم خطأً، فإننا لسنا مع إيذاء الطلاب، ولكننا ننادي بالحفاظ على كرامة المعلم.

وفي محاولتها لمعالجة هذه المشكلة جاءت وزارة التربية والتعليم، بتوصية من إحدى المؤسسات الدولية، بخطوة مضحكة مبكية، جعلت من المعلم حَكَماً للساحة يرفع البطاقة الصفراء بوجه الطالب المذنب لثلاث ثوانٍ ثم يتبع ذلك بمحاورة طلاب الصف حول المخالفة والعقوبة المناسبة لها، في الوقت الذي يمتلك فيه الطالب بطاقة حمراء يُمكنه إشهارها في وجه المعلم ليس في الصف وإنما في قاعة المحكمة!

ونرى أن غياب التأهيل التربوي المناسب يشكل عاملاً آخر في إضعاف النظام التربوي، حيث ينتقل خريجو الجامعات، بتخصصاتهم المختلفة، بشكل مباشر من الجامعة أو كلية المجتمع الى قاعة الدرس، من دون أن يتلقوا برامج تدريبية لتعزيز قدراتهم في التعامل مع الطلاب وفق أفضل الممارسات التربوية. والغريب أن موظفي القطاع العام في معظم الوزارات والمؤسسات يخضعون قبل الالتحاق بوظائفهم لتقييم قدراتهم ومهاراتهم، من خلال المقابلات والامتحانات، باستثناء المعلمين المبتدئين، مع أن المنطق يقول بأن من الأولى تقييم قدرات ومهارات من يتم ترشيحهم لشغل وظيفة معلم قبل غيرهم، وهذا الغياب قد يكون العامل الثالث!

أما العامل الرابع فهو عجز الجامعات، حتى الآن، عن استيعاب ومعالجة النقلة أو الصدمة الثقافية والاجتماعية التي تعرض لها الطلاب في ضوء الانفتاح المتسارع على العالم الخارجي من خلال محطات التلفاز وفضاء الشبكة العنكبوتية الرحب. حيث لم تُفلح الجامعات في بناء الشخصية الجامعية من خلال البرامج اللاّمنهجية الهادفة، ناهيك عن تراجع مستويات التعليم في العديد منها في ضوء التركيز على "الكمّ " على حساب "الكيف"، بسبب الحاجة الى الموارد اللازمة لتغطية النفقات المتزايدة، والتي قد يكون بعضها غير مبرر، أو يفتقر الى كفاءة الإنفاق على أقل تقدير.

ويضاف إلى ذلك عامل خامس يتمثل في المحاولات البائسة من قبل البعض لتقليم أظافر جهازي الأمن العام وقوات الدرك، تارة بدعوى حقوق الإنسان، وأخرى بدعوى ردع التغول! حتى أصبحت محاولات القبض على الجناة وعمليات حفظ الأمن تلاقي حملات منظمة من الاستنكار والشجب، من قبل بعض المؤسسات الدولية وتابعاتها المحلية بطبيعة الحال! وكأن المطلوب من رجل الأمن أن يطلب الإذن من الخارجين عن القانون، وربما من أهلهم وأصحابهم، للقبض عليهم أو وقف ممارساتهم!

أما العامل السادس والأخير فيتمثل في ضعف قوانين العقوبات، من جهة، والتهاون في تنفيذها، من جهة أخرى، حتى بات أصحاب الجنح يكفلون أو يُودعون في مراكز الإصلاح والتأهيل لبضعة أيام، ليعودوا بعدها إلى الشوارع ويمارسوا ذات الجنح، وهكذا دواليك!

اضافة اعلان

وبعد، فحتى لا تَضيعَ البوصلة أو "أن تُضيّع" من خلال توجيه الاتهام الى ما يسميه البعض "هامش الحريات" وإلى العشائر والعشائرية، علينا أن نتحدث بشفافية وموضوعية عن العوامل الحقيقية التي تقف وراء هذه الظاهرة، ونبحث عن حلول ناجعة لها حتى لا تتفاقم وتتعدى الحرم الجامعي.