ليه يا مدارس

بات مألوفا هذه الأيام في شوارع عمان الغربية مصادفة مواكب خريجات وخريجي المدارس الخاصة بأجسادهم المتدلية حتى النصف من سياراتهم المكشوفة "متشعلقين" بالهواء غير مدركين لعواقب انفعالات هوجاء كهذه  قد تكلفهم أرواحهم في لحظة.

اضافة اعلان

ويبدو هؤلاء مفرطي الحماسة بمنجز أكاديمي غير باهر في معظم الأحيان، ضاربين بتعليمات السلامة المرورية عرض الشارع، متناسين انه ملك للجميع، بحسب العرف والقانون الذي ينص صراحة على حق المواطنين العزل من مشاة وسواقين في المضي إلى غاياتهم من دون عرقلة، طبعا باستثناء الحالات الاضطرارية الخارجة عن الإرادة كسيارات الإسعاف والإطفاء التي يلزم القانون بإعطائها الأولوية في كل الظروف.

بيد أنه غالبا ما يجد السائق نفسه عالقا بلا حول ولا قوة خلف موكب لمراهقين مقبلين على الحياة، مضطرا للمشاركة قسريا في مراسم البهجة المستوردة والمفتعلة من ألفها إلى يائها في سياق سلوك حياتي منسوخ  بالكامل من دون أدنى تميز أو ابتكار.

يطلق الخريجون الصغار ورفاقهم "زوامير" سياراتهم مواكبة لصيحات انتصار تنطلق من حناجرهم فارضين على بقية الخلق حالة ابتهاج تخصهم وذويهم فقط!. المشكلة أن هذه الاحتفالات الصاخبة تتم قبل موعد الامتحانات بل وفي عز موعد الدراسة والاستعداد لمواجهة "بعبع" التوجيهي، في إصرار غير بريء من إدارات المدارس الخاصة على تعميم الفرحة المفتعلة من خلال تكريس تقليد استهلاكي محض فرحة الأولاد آخر الأولويات فيه، إذ تتصدره أولوية تحصيل المزيد من الأرباح من جيوب الأهل المنكوبين، فثمة رسوم تخرج وحفل يقام في فنادق من ذات النجوم الخمسة وأرواب تخرج مستأجرة وكتاب سنوي وصور وخلافه من عدة التقليد غير المبصر.

لا أحد ينكر حق أبنائنا في الفرح، إيذانا بالخلاص من أعباء حقبة دراسية امتدت سنوات طويلة، متأهبين للانطلاق صوب آفاق جديدة. غير أن الاعتراض على حجم المبالغة "والإبهار" في الإنفاق، إذ إن المراقب لما يجري في أوساط المدارس الخاصة من أهوال وصنوف تبذير غير مسؤولة سوف يصاب بالذعر من قيمة تلك النفقات الباهظة التي ترتبها مواسم التخرج ليس لطلبة التوجيهي فحسب بل للصفوف كافة ابتداء من مرحلة الحضانة.

الظاهرة الأكثر إيلاما والتي باتت تقليدا شائعا يتم تحت سمع وبصر هذه الإدارات المنهمكة في جباية الأموال وتوزيع الإرباح على شركاء ليس لهم في كثير من الأحيان أي علاقة بفكرة العلم من أساسها، تتمثل في إقدام طلبتنا الاعزاء، بناة المستقبل وحماته، على تمزيق كتبهم المدرسية  وتقطيع أوصالها وأحيانا إحراقها في طقس لا يمكن اعتباره سوى درس مبكر في الجحود والنكران!.

ولا يخفى على احد خطورة سلوك كهذا يبدو تعبيرا طفوليا بريئا غير أنه  يلخص الصورة الحقيقية للثمرة العجفاء التي نجمت عن نظام التعليم الخاص المشتغل في معظم الحالات على منطقة السطح، مخرّجا أفواجا من الطلبة المنسلخين عن سبق إصرار وترصد عن جذورهم المعرفية، لأن هذا القطاع تعامل مع الفكرة وفق منطق تجاري بحت تلعب فيه نسبة الإرباح الدور الأكبر.

وقد تمادت بعض هذه المدارس في غيها، بتشجيع من جمهور المستهلكين الباحثين بدورهم عن الأسماء الشهيرة أو الماركات العالمية سعيا إلى وهم تميز اجتماعي لن يحدث. وقد أكدت لي أم صغيرة أن الكثير من حضانات هذه المدارس تستقبل طلبات لأطفال لم يبلغ عمرهم اشهر معدودة، وثمة مدارس تفسح مجالا لتسجيل الجنين قبل خروجه من بطن أمه، بسبب صعوبة ضمان الحصول على مقعد بعد4 سنوات لأنه "كله محجوز"!

طيب، إذ ما سلّمنا بأن الحالة الاقتصادية ما برحت ضاغطة بشكل كبير، بحيث يتذمر الأثرياء منها قبل الفقراء يبدو السؤال من أين لهم كل هذا مشروعا. صدقوني أن المسألة ليست حسدا أو حقدا طبقيا غير أن الحالة "يا جماعة" تستدعي التأمل فعلا، فالمفارقة أن أوائل المملكة في معظمهم من خريجي المدارس الحكومية، بل إن كثيرا من المدارس الخاصة تعمل على استقطاب طلبة المدارس الحكومية من المتفوقين فتضمهم إليها بالمجان ليس من باب فعل الخير لا سمح الله! بل لغايات تحسين صورتها في السوق. من هنا يحق لنا أن نطرح بكل الألم سؤالا حول ما تضيفه مدارس القطاع الخاص سوى هذا الصخب الموسمي الذي سوف يؤدي على المدى غير البعيد إلى أزمات كبرى لعل أزمات المرور اقلها ضررا!

[email protected]