ماكرون مختلف... وأميركا ليست ترامب فقط

حين يصف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، سياسة واشنطن في ملف المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية بأنها باتت "مهمشة"، فإنه لا يقوم فقط بالاحتجاج على القرارات الخرقاء التي يتخذها الرئيس دونالد ترامب، خصوصا حول القدس، وإنما أيضاً تظهير هوية سياسية مختلفة للرئيس الشاب، الذي أردف لدى استقباله في باريس الرئيس الفلسطيني بأن "الأميركيين مهمشون، أحاول ألا أقوم بالمثل"، وهي عبارة عنت أنّ فرنسا "لن تسارع إلى الاعتراف بدولة فلسطينية في شكل أحادي"، رداً على دعوة الرئيس عباس إلى دور فرنسي أكبر، أي أنه لن "يبني خيار فرنسا على أساس رد فعل".اضافة اعلان
الدبلوماسية الفرنسية النشطة والمتمايزة التي يقودها ماكرون تفتح شهية النقاش والسجال والمراهنة على دور أكبر لفرنسا على الساحة الدولية في تقديم مقاربات للأزمات أكثر عقلانية واتزاناً من تلك التي يطرحها ترامب. وما قد يشجّع على مثل هذا التفاؤل أو المراهنة مواقف باريس وسياساتها الأخيرة في الملف الليبي، وصياغة مخرج لملف استقالة سعد الحريري قبل أسابيع، ودخول ماكرون بوضوح وقوة على ملف المليشيات الشيعية العراقية، لدى استقباله حيدر العبادي في باريس، ودعوته لتفكيك وحل فصائل الحشد الشعبي، فضلاً عن دعوته إلى حوار بين بغداد وأربيل لحل خلافاتهما. ولم تبتعد جرأة ماكرون، وتقديمه لنفسه كـ"مختلف"، عن زيارته الأخيرة إلى الجزائر وتصريحه بأن لديه الجرأة للاعتراف بأن "استعمار الجزائر جريمة ضد الإنسانية"، وهو موقف ليس بجديد، في الحقيقة، إذ كان ماكرون قد أعلنه في حملته الانتخابية بداية هذا العام.
بالتأكيد أن كل هذا ليس هيّناً، حتى وإن كان ماكرون يصرّ على انفتاحه على الجميع، والتزامه التوازن. ولكن لا ينبغي أنْ تقودنا الرغبات والتمنيات إلى المبالغة، ففرنسا، مثلما روسيا والصين، ليست في طور أخذ مكان ومكانة أميركا أو عزلها. وفي الملف الفلسطيني-الإسرائيلي ما تزال واشنطن هي الجهة الأقدر على دفع إسرائيل على تقديم تنازلات تتعلق بالإقرار بالحقوق الفلسطينية. وما هو ليس بهيّن أن الضغوط السياسية ليست مسألة عابرة في العلاقات الدولية. والعمل الدبلوماسي، في مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة، الذي أظهر أميركا معزولة وضد الرغبة الدولية في مسألة القدس، ليس إنجازاً سهلاً، بَيدَ أن هذا الإنجاز يحتاج إلى ديناميكيات تشيع مضامينه، وتنشر روحيته على الأرض. هذه الدعوة إلى الواقعية وعدم القفز على الحقائق والتوازنات مشتقة، أيضاً، من مواقف باريس-ماكرون نفسها، التي تدرك تلك الواقعية، وهو ما يتجلى في مقترحات ماكرون لإصلاح الاتحاد الأوروبي، وجعله طرفاً فاعلاً عالمياً، ودعوته لوضع ميزانية منفصلة لمنطقة اليورو، وكذلك معرفة الرئيس الشاب بأن ألمانيا (الأكثر تشجيعاً في ظل ميركل لدور فرنسي قوي في أوروبا والعالم) عاجزة عن القيام بأي تحرك فارق وحاسم حيال تلك المقترحات قبل تولي حكومة جديدة ألمانية مقاليد الأمور،  وذلك إلى جانب فهم ماكرون، كما قال هو نفسه، بأن "خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيجعلها جزيرة منعزلة على أطراف أوروبا".
إنّ ضخامة الاحتجاج على قرار ترامب الأخرق في ملف القدس، هو تأكيد وإقرار، في الحقيقة، بضخامة التأثير الأميركي في واقعنا وعالمنا، ما يعني أنّ ثمة حاجة أضخم لخلق كتلة واسعة وممتدة من "المتضررين من سياسات ترامب"، في أوروبا والشرق الأوسط وغيرهما، لاشتقاق حقائق بديلة على الساحة الدولية والإقليمية، تخفف من غطرسة القوة واختلال موازينها؛ لصالح التعددية والديمقراطية والحريات واحترام القيم الإنسانية واحتضان العدالة، وتضييق المسافة ما أمكن بين الحق والصواب وبين إمكانات إنفاذهما، ولا بدّ أن تكون أميركا في صُلب هذا الجهد... فهي ليست ترامب فقط!