مصرُ التي في خاطري وفي فمي

أخيراً انتصرت الثّورة في الحبيبة مصر. لنقل إنّها أولى العتبات على طريق الفجر، فجر الحريّة العظيم، وبناء الإنسان الجديد في هذه البقعة الغالية من الأرض العربية. ما جذب انتباهي في أيام الغليان التسعة عشر التي عاشها الشعب المصري، هو ذلك المقدار العظيم من الحبّ الذي نكنّه جميعاً لمصر، فقد خرجت مظاهرات التّأييد للثورة المصرية الفتيّة في كلّ مكان، كما التفّ الناس حول شاشات التلفاز في البيوت والمقاهي ليتابعوا أخبار الجماهير التي تصنع المعجزة. لقد شاعت روائح عبدالناصر مرّةً ثانية في الأجواء، وتنفّسناها بعمق، من خلال المشاهد المؤثّرة التي كنّا نطلّ عليها في ميدان التّحرير وغيره من الأمكنة في القاهرة والإسكندرية والسويس.

اضافة اعلان

لقد اكتشفنا أنّ مصر ليست جغرافيا، بقدر ما هي قبضة أنفاس وأحلام تترقرق في شعاب الروح. وأنّ في أعماق كلّ واحد منّا محراباً أو صومعةً خاصّة اسمها مصر. لكلٍّ مصره إذن، هكذا عرفنا الحقيقة، فضممنا أجنحتنا عليها لنحميها من كلّ ما يتربّص بها من شرور.

مرحلة كاملة من الإحباطات والهزائم طبعت حياتنا في العقود القليلة الماضية، زمن كامل من الكوابيس مرّ وأشاع فينا الجنون. لقد كنّا على وشك الخروج من التّاريخ، وبشكل مخزٍ ومدوٍّ، حين هبطت الجماهير المصرية إلى الشارع، وأخذت زمام المبادرة. لقد خرجت بكلّ هذا التّصميم والاندفاع لتعلن أنّ الأمّة العربية ما تزال أمّةً حيّة، وأنّها قادرة على الصّمود والمجابهة. ما كان مدهشاً في الأمر هو ذلك الانسجام الكبير الذي طبع ثورة الجماهير، تلك التي كانت تتحرّك هنا وهناك بفعل يديّ "مايسترو" مجهول يضبط إيقاعها، يمكن أن نسمّيه الضمير الحيّ.

إنّه شكل جديد من أشكال الثورات التي لم تكن معروفة من قبل، والتي أبدعتها الجماهير العربية، تلك التي أبدعت قبل ذلك الانتفاضتين الفلسطينيّتين الأولى والثانية. ففي كلتا الحالتين خرجت هذه الجماهير من دون أحزاب أو قوى سياسيّة تقودها، وإنّما التحقت بها؛ أي بالجماهير فيما بعد، وفي كلتا الحالتين كان عنصر الشّباب المتمرّد هو من يوجّه البوصلة. أمّا عن هؤلاء الشباب، فقد كانوا قبل أن يقوموا بثورتهم مثار تفكّه وسخرية اجتماعية: قبل الانتفاضة الأولى أشيع أنّ هذا الجيل هو جيل (الهامبورغر) الذي لا فائدة ترتجى منه! وفي الانتفاضة المصرية، تمّ نعت الشباب الثائرين بالفيسبوكيين! والذين كانوا في واقع الأمر ثوّاراً من طراز خاص صمّموا على زراعة الأمل.

في الشوارع والسّاحات العامّة ترجّلت الروح الشعبية العادية، ولجأت إلى أبسط الأشياء لتصنع الثورة.

من المشاهد البسيطة ولكن الساحرة التي فتنت المشاهدين هي صورة ذلك الشاب التي أمسك بعصا حملت الجملة التالية: (ارحل بقى إيدي وجّعتني)، فمثل هذه الجملة نزعت بسخريتها المرّة كلّ ذلك الجلال الزائف الذي تقنّعت به الدّولة البوليسية طوال عقود. هناك أيضاً الهتاف القديم الذي ما يزال صداه يتردّد في فلسطين (ثورة حتى النّصر)، والذي كانت الجماهير تهتف به في ميدان التحرير، ثمّ هناك أيضاً أغنية أم كلثوم (مصر التي في خاطري وفي فمي)، والتي تردّدت أصداؤها في جنبات ميدان التحرير من قِبَل جماعة من المنشدين، فقد ربطت هذه الأغنية بين ما يحدث الآن وما كان قد حدث في بدايات ثورة 23 تموز (يوليو) العام 1952، أمّا نحن فقد استعدنا هذه الأغنية أيضاً وصرنا بدورنا ننشد: مصر التي في خاطري وفي فمي / أحبّها من كلّ روحي ودمي.

[email protected]