"من قلبي سلام" لفيروز

لم يعد هنالك من مشكلة أمام القضاء اللبناني غير منع فيروز من الغناء، وغير كبح جماح صوتها السّماوي عن ترقيص قلوبنا الحزينة في هذه البرية التي تعجّ بالحروب ومتعهّدي القتل!!

اضافة اعلان

لقد تمّ تجاهل قارّة كاملة من الكوارث والمؤامرات، وتركيز الإضاءة إلى حيث... يرعش ذلك الصوت العذب، يئنّ ويذوب، ويعرّش علينا في المساءات الوحيدة مثل لبلاب الجنّة.

رمزان كبيران طبعا حياتنا العربية وضخّا في وريدها النّار: الشاعر الكبير محمود درويش والعظيمة فيروز. لقد كان من حسن طالعنا جميعاً أنّنا عشنا في زمن هاتين القمّتين العاليتين. كأنّهما فيروز ومحمود درويش المعادل الموضوعي لكلّ أشكال الخراب والهزائم، كأنّهما جناحان لطائر الفينيق العظيم الذي يحترق ويولد من رماده. حين فقدنا درويش قبل عامين، قلنا لقد بقيت لدينا فيروز، وهذا فضلٌ من الله علينا.

ما الذي يُطالب به الورثة؟ النّقود؟ حسناً، كان يمكن أن يتم تسوية الأمر، ولكن من دون اللجوء إلى منع فيروز من الغناء.

لكم كان قرار المنع قاسياً! الأمر يشبه محاولة إيقاف النيل عن الجريان! أو لنقل الأمر يشبه تكميم مدينة مهرة مثل بيروت، وحبسها في الاسطبل إلى إشعارٍ آخر، بعيداً عن الهواء والشمس والبحر، إذ ما الفرق بين فيروز وبيروت على صعيد إبداع الفن والحضارة والثّورة؟

لقد فكّر القضاء بالورثة ونسيَنَا نحن ورثتها الحقيقيّين، نسي أنّ فيروز لم تعد ملكاً لمجموعة بعينها من الأشخاص، بقدر ما هي أصبحت ملكاً عامّاً، وبقدر ما أصبح صوتها مشاعاً كالهواء الذي نتنفّسه، وكالشّمس التي تطلّ علينا كلّ صباح.

لقد تعوّدنا عليها، فحين تهدهد الأمّ طفلتها تغنّي لها أغنية فيروز "يلا تنام ريما"، وحين يقع الواحد في حبّ امرأة لا يملك إلا أن يلجأ إلى فيروز كي تغنّي له "من عزّ النّوم بتسرقني"، وحين يسافر الواحد منّا إلى بيروت يرنّ في أذنيه كلام فيروز الذّهبي "من قلبي سلامٌ لبيروت".

الفرق بين وَرَثَة فيروز من أبناء منصور وبيننا كبير، ففي الوقت الذي يطالب فيه أولئك الورثة بالفلوس ولا شيء غير الفلوس ـ تصوّروا ـ نطالب نحن بسماع صوتها، هذه النعمة الربانيّة التي لا تُقدّر بثمن.

أمّا المسألة الثانية فتتعلّق بفكرة الورثة الكسالى الذين لا شأن لهم بغناء فيروز، ولم يقوموا بإبداعه في يوم من الأيّام، ويتعاملون معه تعامل من ورث طينا ونقوداً.

لقد ترتّب على منع فيروز من الغناء، وكانت ستؤدّي مسرحيّتها "يعيش يعيش" في كازينو لبنان، نوع من الإساءة لهذه الفنّانة العظيمة، ففي ذلك المنع شيء من القتل أو الاغتيال المعنوي، وأنا أعتقد أنّ ثمّة مخطّطاً كان يبدو مُعَدّاً ليس من هذا الوقت وإنّما منذ فترة، فقد نشر الكاتب اللبناني (جهاد فاضل) قبل عام تقريباً، وبعد أربعين يوماً من وفاة الفنّان منصور الرحباني، مقالةً طويلة له في جريدة الراية القطرية، هاجم فيها فيروز بضراوة، وذلك حين قال عنها إنّها مجرّد: "فتاة قروية ساذجة، ليس لها من حلاوة في الوجه، وفيها عيوب جسديّة كثيرة، وهي غير متعلّمة أو مثقّفة، وليس لديها سوى صوتها". طبعاً المقالة كانت مليئة بالشّتائم والعبارات التي لا تليق بسيّدة الغناء العربي، وتنمّ عن روح حاقدة بعيدة عن النقد.

غداً الاثنين سيكون لجمهور فيروز، ولعشّاق صوتها الملائكي، موعد مع الاحتجاج والاعتصام، ليس في بيروت، ولكن في عدد كبير من العواصم، فلعلّنا نؤدّي قسطاً صغيراً من الدّين الذي لفيروز علينا.

[email protected]