تفحيط!

منذ أن بدأنا حملة واسعة ضد مجموعة من المستهترين بقيم الطريق والمجتمع والناس من الشباب الذي اتخذ لنفسه لقب "مفحط"، وعلى خلفية فيلم الفيديو الذي حمل من الاستهتار والتهور ما لم يكن بمقدورنا أن نتخيله في يوم من الأيام، وأنا أتلقى ردودا غاضبة من الشباب حول الظُّلم الذي وقع عليهم جراء الحملة.. "بل ذهب أحد الطلبة لمواجهتي بكل جرأة بالسؤال الخارق؛ "إذن أين يمكننا أن نفحط؟.. وفروا لنا مكاناً للتفحيط".اضافة اعلان
فعلاً.. أيُّ ظلم هذا الذي يوقعه المجتمع والقوانين وإدارة السير وأجهزة الأمن على نخبة من شبابنا المتفتح للحياة، الذي لا يرى في أفق مستقبله وأيامه إلا قدرته على التفحيط ورغبته الجامحة لممارسة هذه الموهبة الإبداعية في الشوارع العامة وعلى أبواب مدارس البنات ووسط الأحياء، وحتى تحت الأنفاق.
"وين نفحط".؟! أثارت بي تساؤلات لا تنتهي حول من سيقود مستقبلنا ويقدمنا للعالم وقتها بصورة، تحظى على الأقل لا بالاحترام بل، على الأقل بلا مزيد من الاحتقار العالمي لصورتنا وسلوكياتنا ومفاهيمنا الخاطئة في الدين والرأي والديمقراطية وحرية التعبير، بصورة تضمن لنا مكاناً بين شعوب العالم التي تركض نحو الازدهار والارتقاء بمناحي الحياة، وتأمين العيش الرغيد والرفاهية واختراق العلوم والتكنولوجيا لآفاق لم يكن للإنسان أن يتخيلها.
من هم أولئك الشباب الذين سيقدموننا للعالم بعد عقد من الزمان مثلاً، ويقدمون معنا أحلامنا وآمالنا بأن يحسن هذا العالم المشغول بإنجازاته صورتنا، نحن المشغولين بتشويهها والإساءة لها، هم المفحطون الذين سيأخذوننا مع تفحيطهم (المُبدع) نحو المربع الأخير، حيث لا عودة، ولا مخرج من أزمة للباقي من أعمارنا.
في أفلام الفيديو التي عَرضت فيها ثلةُ المفحطين إمكاناتها وأثارت (إعجابنا الشديد)، يظهر شباب يغلقون باب النفق بمجموعة من سياراتهم الفارهة، يمنعون صفوف السيارات المكتظة وراءهم حتى من التحرك، يمارسون إبداع التفحيط والتشحيط والدوران وسط فرحة عارمة ونشوة لا تعادل نشوة الشاب الأميركي مارك زوكربيرغ عندما أطلق موقعه الجديد "فيسبوك" ليصبح من أشهر شباب العالم وأغناهم فيما بعد سعادة، لا ترتقي لسعادة الشاب بيل غيتس الذي اخترع "مايكروسوفت" ليصبح أثرى رجال العالم وأذكاهم.
مشهد استمر لدقائق مرت طويلة جداً، وقبل أن يهموا بالمغادرة تبادلوا الابتسامات والإشارات اللغوية التي لا يفهمها إلا هم، تعبيراً عن النصر، وغادروا ليظهروا في فيلم آخر يقدمون جزءا آخرَ من مسلسلهم "الاكشن" في حي جديد أو شارع مكتظ آخر.
بين باقة المفحطين الذين ظهروا في الأفلام، وبين من أطلقنا حملة وسط البلد عليهم، تسع فتيات وعشرات الذكور.
وبينهم من جاءته سيارته الفارهة على طبق من دلع ودلال زائد، لم يدرك قيمتها وحتى اليوم لا يعرف ثمنها، وغير معني بطريقة تحصيله، وبينهم من هم من طبقة أفقر، لكن أحلام التفحيط جمعتهم (من أجل خير الشباب وصورتهم المميزة وإظهار إبداعاتهم وإبراز مواهبهم).
اسأل أحدهم، كما أتعمد في بعض لقاءات مع نفر منهم، عن عاصمة السعودية أو من يكون بان كي مون أو حتى عن اسم رئيس مجلس النواب الأردني، فتأتيك الإجابة بجرأة مشابهة للطالب إياه "شو بعرفني".
اسأله عن أي موضوع أو قضية لا ترتقي لتكون مادة حديث محترم، تجده محاوراً بارعاً في شؤون الخمسات والدوران والالتفاف المعاكس والتعبيرات السوقية المذهلة، وإشارات اليد التي لا تنتهي وانتقاد البلد والناس والاستعراض وكيل الشتائم للأستاذ وللمدرسة وللوزارة.
اسأله عن أكبر أزماتنا، يتحدث عن أزمة السير والمخالفات والمطبات والشوارع المهترئة وعن أزمة العلاقة بين الشاب وأسرته ومدرسته وجامعته وعالمه، ولا يتحدث أبداً عن أخطر وأكبر أزماتنا التي ستأتي علينا وعليه؛ أزمة الأخلاق!