في التحصيل وفي التوبيخ

"أمسك بالدينار لآخر لحظة، وإياك والدفع". سمعت هذه النصيحة فقط في بيئة الأعمال العربيّة! واستحضرها للمقارنة بحادثة طريفة وقعت مع وفد ياباني حضر إلى عمّان بعد فترة من توقيع العقد، معتقدين أنّهم قادمون لفسخه! وهنا تأهّب صفّ من رجال الأعمال ببزّات عمل سوداء ووجوه حزينة. وبعد انحناءة طويلة، صرّح كبيرهم أنّ لديه من الأخبار السيّئة ما يريد إعلانه. فالتقطنا جميعا الأنفاس تحسبا لكارثة وشيكة، جاءت كالآتي: "إنّ الدفعة الماليّة التي كانت ستصل في اليوم السابع المُعيّن من الشهر ستتأخّر عن الوصول إلى اليوم الرابع عشر من الشهر ذاته"! وأنّهم "جدا آسفون ومسؤولون عن نتائج التأخير". ما يعني أنّ أربعة من الرجال حضروا إلى الأردن للاعتذار من المورّد عن أسبوع من التأخّر في الدفع! اضافة اعلان
لكن الذي يحدثُ في بيئة الأعمال لدينا هو العكس تماما؛ بحيث نُلاحظ أنّ تجنّب الدفع وتأخيره هما أشبه بـ"تكتيك" في العمل. وقد يحدثُ أن تُكافأ هذه "الفهلوة" باعتبارها عملا وطنيّا، وعبر توبيخ المزوّد. كما ولدى أقسام اللوازم وإدارة المشاريع، ومن المُفوّضين بالتوقيع، وفي القطاع الخاص أيضا، من يتجنّبون الدفع لآخرين كفعل "شطارة". ويشتركُ بالسلوك أفراد وتُجّار مُوسرون أو معسرون، وقطاعات أعمال تتنوّع؛ فهي ليست ظاهرة قطاعيّة، بل مثل "ثقافة عامّة" في بيئة العمل! وعندما تُضيف إلى هذا تعقيدا آخر على مستوى "إجراءات أو آليات الدفع، فستختار الأطراف حتما "التطنيش" للحظات الأخيرة.
وعليه، أجد أنّ تبنّي آليّات الدفع الإلكتروني هو الإجراء المفصلي الفرعي الأهم للماليّة الأردنية، بهدف تسريع عملية التحصيل عبر تسهيل عمليات القبض والصرف على مدار الساعة! فالسنة المالية وهي تُشارف على نهايتها، يبدو المال لكلّ الإدارات بحسابات الربع الأخير مثل عصافير في الهواء، بحيث يركضُ العاملون في كلّ مكان للإغلاق المُحاسبي، ولتقدير الوفر أو الخسارة. وعليه، لا بد من هندسة عمليات التحصيل عبر إجراءات من بينها نقل عمليّة التحصيل بشكل سريع عبر "اي فواتيركم"، وتحصين الدفع الفوري عبر البوابات الإلكترونية وتطبيقات الموبايل المتوافرة، والتوعيّة الوظيفيّة عبر ربط عملية القبض بفكر الإنجاز.
كما لا بد من اتباع كل إجراء من شأنه منع التداول بـ"الكاش". والأهمّ وقف كل أشكال التحصيل في اقتصاد الظل. والتفاوض مع شركات البطاقات الائتمانيّة على أسعار الفائدة والغرامات لشمول العدد الأكبر من التُجار والشركات الصُغرى والشرائح والافراد. كما ويُمكن للدولة إصدار "بطاقات ائتمانيّة حكومية" للتداول والتحصيل الفوريّين. وهو اقتراح نطرحه ولم يُدرس بعد!
ونتذكّر حكمة تعلّمها التجار الأوائل بأن "أعطوا الأجير أجره قبل أن يجفّ عرقه". وهي مقولة تؤكد على أهمّية تخليص الحُقوق المُتقابلة لضمان استمرار دورة الاقتصاد، بحيث يكون إتمام المشروع وحصر الدين والمُقايضة والمُبادلة والدفع بالقطعة والخدمة والتفاوض والجدولة والتقسيط، كُلها خيارات واردة في نظام الإغلاق المالي. لا بل  تُحضّر المجتمعات الدوليّة اليوم للتعامل بنظام مُحاسبي إلكتروني للدفع وللتحويل المالي والدولي الفوريين، شيء مثل "أستاذ عام" إلكتروني ودولي! لأنّ التحصيل والسلاسة في التحصيل هما ميزة المجتمعات المتقدّمة، ويدير كلّ ذلك أجهزة التقنية الحديثة.