درس من الأمس

مالك العثامنة قبل رحيله وبعد رحيله أيضا، قدم لنا المرحوم الأستاذ عدنان أبوعودة منجما من الوثائق على صيغة يوميات ومحاضر جلسات تشكل جزءا من التاريخ السياسي الأردني “والعربي” الحديث. بالنسبة لي، فما حوته اليوميات لم يكن مهما وحسب من ناحية توثيق الأحداث السياسية المفصلية ومعرفة كواليسها لتثبيت من كان على صواب أو على خطأ، وهذا كله مهم في معرض تثبيت الحجة بلا شك، لكن الأهم كان تخيل كل هؤلاء الشخوص والذوات في عالم السياسة الأردنية والعربية وهم يتجادلون ويتحاورون ويضعون أفكارهم ويشرحونها ويقاتلون من اجلها، كل حسب المصالح التي تقف خلفه أو يقف خلفها. الجزء الثاني من اليوميات والتي صدرت بعد وفاة أبوالسعيد رحمه الله، كان الأكثر إثارة للخيال عندي، وفيه من الدروس التي يمكن قراءتها في الأجواء ما يكفي لفهم الماضي وإسقاطه على الحاضر وتشخيص الخلل. اليوميات مليئة بما يمكن تعلمه عن علاقة الدولة الأردنية “مكتملة المؤسسات والنضج” مع منظمة التحرير الفلسطينية التي تاهت بين مشروع دولة بمستوى سجادة حمراء ومشروع تحرر لم ينضج يوما. وكذلك، في ثنايا الحوارات والمحاضر الموثقة لكل الاجتماعات بين أركان الدولة “مكتملة المؤسسات والنضج” تجد هذا الشعور الحقيقي عند رجال تلك الدولة “ومنهم من انتقل إلى رحمة الله ومنهم من ما يزال حيا ندعو له بالصحة والعافية”، ذلك الشعور الذي تحركه مصلحة الدولة الأردنية. هم شخصيات “رجال بمعظمهم” يختلفون ويتفقون ويتجادلون ويتحاورون وتجد خلافاتهم في تلك الحوارات مبنية على أسس جدلية موضوعية محترمة، والأهم أنهم يدركون المعنى الحقيقي لمصلحة الدولة ومؤسسة العرش، حتى لو أدركوا أن رأيهم قد لا يعجب الملك نفسه، لكنهم يطرحونه ويدافعون عنه قدر ما يملكون من قدرة مؤمنين بأنهم يحمون الملك نفسه أيضا. في مرحلة 1982، كانت القطيعة العربية ما تزال مستمرة في مواجهة مصر منذ كامب ديفيد وزيارة السادات لإسرائيل، وكان الملك الراحل ينازع رغبة شخصية في داخله لقطع المقاطعة والتواصل مع الرئيس مبارك مباشرة. كان رئيس الوزراء حينها مضر بدران، وكان معارضا لأي تواصل يقطع أوصال التفاهمات العربية ومن منظوره ان ذلك يعزل الأردن عن محيطه الإقليمي الذي هو بحاجته في تلك المرحلة. في اليوميات التي سجلها كشاهد عيان أبو السعيد رحمه الله، فإن الملك الراحل الحسين، ذكر في اجتماع مع رجال دولته انه طلب من رئيس ديوانه ( وكان دولة أحمد اللوزي شخصيا!) أن يتواصل مع الحكومة المصرية لغايات التواصل وفي مرحلة من حديثه عبر الملك عن رغبته بأن يرفع مستوى التواصل من مندوبين إلى مستواه شخصيا كرأس دولة، وأنه أبلغ المصريين بنيته زيارة مصر شخصيا وقريبا. حسب اليوميات، فقد ثارت ثائرة رئيس الوزراء ومن منطلق حمايته للملك ومؤسسة العرش، وقال للملك: (يا سيدي، لماذا تحملنا ما لا نستطيع حمله؟ إن أعباءنا كثيرة وزيارتك ستثير متاعب، كيف نقنع الناس بها؟ أنا أكاد أخرج من جلدي ولا انام من التعب والقلق الحالي والسياسة وكل شيء، فلماذا هذا العبء الإضافي؟) الملك الراحل، والذي يعرف رجال دولته جيدا، رد بهدوئه: لم أقصد الآن يا أبو عماد، أقصد حينما تتحسن الظروف. فيما بعد، وحسب مذكرات مضر بدران، فإن العلاقة مع مصر عادت بإخراج دبلوماسي رفيع المستوى صاغه رجال الملك، دون ان يعرضوه ويعرضوا الدولة الأردنية للحرج. وفي التاريخ، نتمكن من وعي ذاتنا من جديد، وعيا تاما. وهو تاريخ قريب على مسافة الأمس. المقال السابق للكاتب  للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنا اضافة اعلان