"حاويات الموت".. حتى لا تنتقل من العراق إلى فلسطين

  لم يكن العالم يعرف طريقة الشواء الآدمي في "حاويات الموت" حتى اكتشفتها مليشيات الجنرال الأوزبكي عبدالرشيد دوستم. تلك الحاويات ليست بروباغاندا معادية لأميركا، ولم تخرج أخبارها في مواقع إنترنت تابعة للقاعدة، بل خرج تحقيق مفصل عنها في كبرى المجلات الأميركية "نيوزويك". وخلاصتها، أن المليشيا الأوزبكية المتحالفة مع أميركا، عمدت إلى نقل أسرى "طالبان" في حاويات نقل البضائع، وهي صناديق معدنية محكمة الإغلاق، تتحول إلى فرن في درجات الحرارة المرتفعة.

اضافة اعلان

قابلت المجلة ناجين من المحرقة، يصفون مدى انحطاط البشر عندما تتملكهم مشاعر الانتقام؛ فالأسرى من شدة العطش أخذوا بلعق العرق المتصبب من بعضهم! أكثرهم قضوا "شواء"، وقلة قليلة نجت لتحدث البشرية عن حكاية محرقة لا بواكي لها. طبعا، لا محكمة جنائية دولية ولا تحقيق مع جنرال الحرب ولا ما يحزنون... دوستم غدا شريكا أساسيا في أفغانستان المحررة، وبدلا من أن يعتقله الجيش الأميركي، فإنه يوفر له الحماية. أما المجتمع الدولي الذي لا ينسى مجازر الأرمن قبل أكثر من قرن، فقد نسي تماما المحرقة الطالبانية، ولم يعد أحد يتذكرها، فالعالم تكفيه الحفاوة بالمحرقة اليهودية!

تذكرت حاويات الموت، أو المحرقة، عندما كشفت هيئة علماء المسلمين في مؤتمر صحفي شارك فيه أحد الناجين، عن محرقة مماثلة نفذتها الشرطة العراقية. شاهدت صور الآدميين "المشويين"، ومن بينهم طفل في الثالثة عشرة من عمره، وتخيلت ماذا كان العالم سيفعل لو كان الشواء للحم  في مكان آخر، على يد فاعل آخر؟ المجزرة ارتكبت على خلفية طائفية بغيضة، ولم يجر فيها تحقيق ولا إدانة! (أين مرجعية السيد علي السيستاني مما يحدث؟).

من المرجح أن يكافأ من نفذ المحرقة كما كوفئ الجنرال دوستم من قبل. ولن يحصل الضحايا حتى على اعتراف بأنهم ضحايا وليسوا مجرمين. حتى الطفل سيعتبر إرهابيا وافدا، أو من بقايا النظام المقبور، اقتصت منه الشرطة!

الأوضاع في العراق تحولت إلى حرب طائفية، ومن ينكر ذلك عليه أن يقدم تفسيرا آخر. وعادة ما تكون هذه الحروب مديدة، ويصعب حسمها لصالح طرف، ولا يخرج منها منتصر. ولا يملك الناس غير الدعاء إلى الله ليجنبهم شرور البشر.

انتقال العدوى من العراق إلى فلسطين يبدو مستبعدا، لكنه غير مستحيل. فثمة من يحبذ أن يتحول الخلاف السياسي في فلسطين، بين السلطة والمقاومة، إلى انقسام أهلي، وصولا إلى حرب أهلية. ومن يحبذون، لديهم إمكانات عسكرية وأمنية وسياسية وإعلامية، ولا يريدون أن يكون انسحابهم من غزة هزيمة مذلة، بل يريدون أن يكون بداية لحرب أهلية، تدمر القيمة الأخلاقية للقضية الفلسطينية.

السلطة الفلسطينية وحماس تعاملتا بمنتهى المسؤولية عقب رحيل الرئيس عرفات، وتجلى ذلك في زيارة محمود عباس إلى دمشق أخيرا. وما حدث في غزة أول من أمس كان خروجا على النص الفلسطيني، بقدر ما هو تطبيق للنص الشاروني. فحصول مواجهة بين كتائب القسام والشرطة الفلسطينية يعني، ببساطة، أن تتحول كل غزة وكل الضفة إلى حاويات موت في هذا الصيف الملتهب، وإذا كان الفلسطينيون لم يجدوا عالَما يعترف بمجازر دير ياسين وصبرا وشاتيلا  وصولا إلى جنين، فمن سيعترف بحصاد حرب أهلية؟

الرهان أن يجد الفلسطينيون من "يطرق على الخزان"، وأن لا يتكرر السؤال الخاتم لرواية الشهيد غسان كنفاني "رجال تحت الشمس"، عندما قضى الرجال في خزان الوقود الذي هربهم إلى الكويت، وفضلوا أن يقضوا شواء على أن يكتشف أمرهم، ولم يجيبوا عن السؤال: لماذا لم تطرقوا على الخزان؟